فرانكشتاين في بغداد
أضحتْ السرديات حول واقع العراق تشكّل عبئاً نفسياً شديد الوطأة على القارئ بلا شك. وأصبح المتابع لنماذج هذه الكتابات الروائية يصاب بحالة مزمنة من الكآبة الممزوجة بالتوتر العصبي والغثيان. وعليك لكي تكمل قراءة رواية مثل "وحدها شجرة الرمان" لسنان أنطون أو "فرانكشتاين في بغداد" لأحمد سعداوي أن تتحلى بالقدرة على الصمود في مستوييه النفسي والعصبي، لكي تمرر ذلك الكم من الصور الفائحة برائحة الدمار والفوضى واختلاط اللحوم البشرية برائحة المتفجرات وركامات الأنقاض. ومن وراء هذا الخراب يتلامح الإنسان البسيط كالشبح يبحث سدىً عن بقايا إنسانيته وأمنه المفقود، وعن نُتَفٍ من وطن تقتسمه ثلة من السباع. أعتقد بأن اختيار رواية "فرانكشتاين في بغداد" لتفوز بالبوكر لعام 2014م، كان بسبب خوضها بالهمّ العراقي الذي فرض نفسه على المسرح السياسي في السنوات الأخيرة، والذي من هذا المنطلق فرض نفسه على المشهد الأدبي كلون من المعايشة لواقع بشع ومخيّب للآمال، يُستحسن ألا يفلت من الذاكرة الثقافية المعاصرة. وليس هناك أدلّ على بشاعة هذا الواقع وجنونه وفانتازيته المغرقة في السواد من اصطناع شخصية مثل "فرانكشتاين"، المسخ الذي صنعه العراقيون أنفسهم من بقايا خيبات وفشل سياسي وطائفية وصراعات على السلطة وتصفية حسابات، ليعود ليقتات على لحوم صانعيه ويوسعهم قتلاً وترويعاً!
وشخصية "فرانكشتاين" أرادها المؤلف أحمد سعداوي أن تتناصّ مع الشخصية المعروفة في أدبيات القصّ الكلاسيكي العالمي والسينمائي وتحمل ذات الاسم. والمؤلف لم يغيّر على الإطلاق في طبيعة الصفة أو الدور الذي كان يؤديه "فرانكشتاين" في القصة العالمية، وأعاد تظهيره بنسخته الحديثة في حي البتاويين البغدادي. سمّى أحمد سعداوي مسخه (الشسْمه)، ومعناها في اللهجة الدارجة "اللي شو اسمه"، أي الذي لا يُعرف اسمه. وصفة مجهول الاسم أو الهوية تنطبق على الرواية العالمية أيضاً، لأن "فرانكشتاين" في الرواية هو دكتور فيكتور فرانكشتاين صانع المسخ وليس المسخ نفسه كما هو معروف، ولكن يبدو أن نوعاً من الخلط بين الصانع وصنيعته حدث لاحقاً واستمر أيضاً. في منحى فنتازي ورمزي يتشكل "الشسْمه" على يد "هادي العتاك" تاجر العاديات والأثاث القديم، الذي برثاثة مظهره وعيشه وسط "الخرابة اليهودية"، يقتات مثله مثل "فرج الدلال" على بلاءات النازحين والراحلين عن جحيم بغداد، عن طريق شراء ما يملكون بأبخس الأثمان وأشدّ الحيل مكراً. وبهذا يعكف "هادي" على صنع "الشسْمه" من بقايا أعضاء الجثث الممزقة بالانفجارات، يخيطها معاً عضواً عضواً من ضحايا عدة حتى اكتمل هيكل الكائن الغريب المشوّه. ولكن – وللعجب – سرعان ما تدبّ الحياة بهذا الكائن بعد أن دخلته روح حارس الفندق "حسيب جعفر" الذي استحال إلى رماد بعد تفجير مروّع، وهامت روحه المعذبة تبحث عن جسد تدفن معه، فكان أن صادفت "الشسْمه" وحلّت به وبُعثت من خلاله. يبدأ "الشسْمه" بتنفيذ رسالته التي أرادها، وهي الانتقام لكل قتيل يحمل عضواً من أعضائه. وهكذا توالت عمليات القتل بشكل عشوائي لمذنبين وأبرياء، وكلما انتقم لأحد الضحايا ذاب العضو المنسوب له وتحلل، الأمر الذي يدفعه للتعويض بعضو آخر لضحية أخرى. وهكذا استمرّت عمليات القتل تباعاً ودون دوافع منطقية أو أسباب دامغة. إلى أن تستنفر الجهات الأمنية قواها لملاحقته والقضاء عليه، ولكنهم يفشلون في كل مرة. وأخيراً يلقون القبض على العتاك مدّعين أنه هو "الشسْمه" لمداراة خيبتهم وفشلهم، بينما يبقى "الشسْمه" رابضاً كالظل الأسود بين الخرائب، مهدداً بغداد بالمزيد من الجرائم والقتل. إن دلالة استمرار العنف العبثي في بغداد قد لا تتمثل فقط بذلك المسخ المجهول الذي لا اسم له، وإنما كانت تتمثل أيضاً في شرائح أخرى تمثل الفساد والوصولية والانتهازية والصراع على السلطة والمال، فكلهم "شسْمه" وإن بقناع آخر. وكان لكل مفسدة وعلة شخصية تمثلها في البناء الروائي، كعلي السعيدي ونوال الوزير والعميد سرور مجيد وفرج الدلال وغيرهم. ومن جهة أخرى هناك المتضررون البسطاء من واقع بهذه القسوة والهشاشة، ممن كانت حياتهم وأمنهم على المحكّ في مثل هذه الظروف، مثل أم دانيال الآشورية المسيحية وناهم عبدكي وأبو أنمار والشماس نادر شموني وأمثالهم ممن كانوا وقوداً للانفجارات والقتل والتهجير القسري. أما "محمود السوادي" الصحافي الشاب، فلعله يمثل العقل المتسائل والروح القلقة التي ظلت محافظة على شيء من نظافتها ونقائها وسط أكوام من الخراب والفساد.