حمّى المتصوف الديونيسي

نشر في 07-05-2015
آخر تحديث 07-05-2015 | 00:01
 فوزي كريم هذه هي المرة الأولى، على حدّ علمي، التي تًعرض فيها أوبرا "الملك روجر" للبولندي شيمانوفسكي (1882-1937)، في دار الأوبرا الملكية في لندن. لقد فطنتُ للأمر متأخراً، ولذا صار من المستحيل أن أحصلَ على تذكرةٍ متواضعة تواضُعَ دخلي. فما الحيلة حتى أفي حقَّ ذائقتي التي تحب هذه الأوبرا، كما تحب موسيقى مؤلفها جملةً؟

في البيت أعددت ترجمة إنكليزية للأوبرا، لأن الإصدار القديم الذي يضم النص الشعري (اللِبريتّو) الذي كان لديّ ذهب مع الأسطوانات السوداء، التي تخليت عنها منذ أيام. وجئت إلى كهف علاء الدين السحري You Tube، أستعين به. فعثرت على تسجيلين حيّين، لا ترجمة فيهما. الأول فرنسي لم أحتمله، من الفصل الأول. لأن المخرجَ شاء أن يركَبَ موجةَ الإثارة، فعرّى المغنين على المسرح، وأفاض في حمى الحسّية، ونشواتِ الجسد. وأعرف أن هذه الحال، وتحدث كثيراً مع الإخراج الأوبرالي هذه الأيام، ستستبدل الإثارةَ الحسية بكل المعاني الدفينة في الموسيقى وفي النص. وانصرفتُ إلى الثاني، وهو بولندي يمكن للقارئ أن يُطلّ عليه لحظةَ يشاء ليتعرف على الأوركسترا وقائدها، وعلى المغنين.

مع شاشة التلفزيون الواسعةِ أمامي، والنص الشعري على جهاز "الكندِل" بين يديّ، قضيتُ ساعة ونصف رائعين، أُلاحق الأوبرا بفصولها الثلاثة. كل فصل ينصرف إلى معالجة مسألة "الدين" من زاوية محددة: المعالجة المؤسساتية، والمعالجة التي تعتمدُ العبادة التلقائية، ثم الثالثة التي تعتمد التواصل الفردي بين الانسان والله. والأخيرة نزوعٌ صوفيٌّ يستلهم الله والحب معاً. كان شيمانوفسكي حينئذ يزور جزيرة صقلية، وفي ذروة اهتمامه بالفكر اليوناني، وفكر المتصوفة المشارقة، خاصة ما ينتمي إلى الحضارة الشرق أوسطية.

تنطوي حكايةُ الأوبرا على فكرتين: شرقية وبيزنطية، وأحداثُها تجري في صقلية عام 1150. في الفصل الأول، الفصل البيزنطي، نرى الملكَ "روجر"، وزوجته "روكسانا" ومستشارَه الأمين أدريسي، خلال أداء القُدّاس في كاثدرائية باليرمو. يصله خبرٌ شاع بين الناس عن راع شاب، جميل الطلعة يدعو إلى دين جديد. يستدعيه الملك إلى الكنيسة وفيها توجه له تهمةُ الكفر بالله. الجمهور يعزز هذه التهمة ويطالب بأن يُحاكم الراعي ويُعدم. ولكن الملك والزوجة والمستشار كانوا، في دواخلهم الخفية، بالغي التأثر بشخص الراعي الذي يتمتع بالرقة والتواضع. فيطلق الملك سراحه.

في الفصل الثاني، وهو فصلٌ شرقي الروح، تجري الأحداثُ في قاعة القصر الملكي. بينما كانوا ينتظرون مجيء الراعي، كان المستشار أدريسي قلقاً بشأن عواطف روكسانا تجاه الداعية الشاب. حين يصل الراعي يأسر الملكة بحمى الرقص الذي عماده الحب، وبحمّى الدعوة إلى حملة رحيل جماعي باتجاه "أرض الحرية الأبدية". فيتبعه الجميع، وروكسانا ضمناً. الملك ومستشاره يبقيان وحدهما في القصر. ولكن مشاعر الملك الدفينة سرعان ما تطفو عنيفةً على السطح، فيقرر التخلي عن العرش، ويسعى وراء خطى الراعي الشاب وزوجته المأسورة.

في الفصل الثالث، الفصل الهيلليني، تنتقل الأحداث إلى خرائب مسرح يوناني قديم حيث يصل الملك ومستشاره بعد رحلة طويلة شاقة. ينادي باسم زوجته روكسانا فتجيبه، وتحضر أمامه وهي في ذروة تهيامها براعي الدعوة الجديدة. وفي الحال يظهر الراعي بهيئةٍ "ديونيسية" (وديونيسوس إله حصاد الأعناب والنبيذ، وطقس الجنون، والنشوات الحسية في الأساطير اليونانية)، فيأسر الملك في بحران تصوفي لا يخلو من حسية ملتهبة، ويبدأ الملك يغني ترتيلة لمشرق الشمس.

هذه الرمزية الشعرية بالغة الأهمية، فالنص الشعري يعتمد فكرة العلاقة بين المسيح وبين "ديونيسوس"، إله الرغائب والغرائز. الملك، بفعل غرق في حمى تصوفية، تذكر بحمى الشاعر "رومي" في حب "شمس"، يبدأ في فهم هذه الوحدة المقدسة بين الراعي وديونيسوس.

الموسيقى تلاحق هذه التغيرات التي تحدث بين الفصول الثلاثة. فهي تأخذ مسحة بيزنطية بموسيقى الكورال الأورثذوكسي في الفصل الأول، في حين تأخذ في الفصل الثاني مسحة شرقية تتمتع بالحيوية، والكثافة والغموض، وتبين فيها ملامح السلم الموسيقي العربي/ الفارسي.

back to top