في مستهل بوحها في «نبوءات» تعلن الشاعرة ريم غنايم أنّ قصائدها ليست لها، وتستحضر الموت والجسد كأنّهما وجهان لألم واحد فالنّهد يستريح تراباً تحت زنابق تحرس موته بعطر حزين، والمقبرة تبدو الظلّ الأكثر امتلاءً للمحبرة: «.. وزنابق تعلو شواهد النهد الميّت حيث دُفن أشباهي في حمض الدي.إن.أ عموديّاً في طرف المقبرة». وتستكمل غنايم رسم مشهد الفجيعة الشعريّة لتغدو القصائد قبوراً لغويّة تحتضن أصحابها بعدما عمل سيف الحبر في الأعناق لتتدلّى رؤوس الشعراء من شرفات الكلمات مصبوغة بدماء أحلامها: «أعلم مسبقاً أنّ أشباهي يتكوّرون في القصائد الميتة. الرؤوس المقطوعة هناك نسخ من رأسي الحالم، وصوت يشتهي رأسي المقطوع متدلّياً». وفي غابة الرّعب، حيث يعلو شجر اللغة الأسود يرتجل الفراغ آلاماً لا يستطيع سوى المورفين التعامل معها ندِّيّاً: «فأنا أحلم بجرعات من المورفين تخفِّف عنّي ارتجالات هذا الفراغ».
في النهر تبذر غنايم نارها ليتأرجح وجهها بين قطرة وجمرة: «في نهر يتماوج يطلّ وجهي/ أراني أسير في موكب النار مع السائرين»، وفي هذا الجوّ الاحتفالي بالفجيعة تحل كلمات متقاطعة لأنّ الهواية منشورة على حبال الكذب، ولأنّ النبوءة مكتفية بما فيها من قساوة: «أعلم أنّي بها سأتخطّى أكاذيب الهواية/ وقسوة النبوءات». ويعود الموت ليأخذ حصّته الدائمة من المشهد، فالجثّة تكفّنها الشهوات، والفرح صناعة كلابيّة حين كلب شريد على رصيم وحين وجه يضحك لبصقة لم تخطئه: «سقطتُ جثّة/ وتخشَّبتُ في مزابل الشهوات/ ... كم فرحتُ فرح الكلاب السائبة/ بصقة غمرتْ وجهي».تحترف غنايم الصّعق بكهرباء اللغة، والوقوف على شفير هاوية المعنى، وتصرّ على تحدّي الوجود بالغياب أو بما يعادله من قاموس الموت. لكأنّها ترتاح لحياة هي عبارة عن موت متواصل إلى حدّ أنّه يأتي قبل أن يأتي وكلّما تكرّر يزداد خصوبة: «سأموت قبل أن أموت». ولغنايم سورياليّتها ورمزيّتها المغلقة، فهي تعطي قارئها مفاتيح التأويل وتتركه يواجه ضباب الحديقة الكثيف ليصل إلى تفّاحة على غصن... فالليل أسير المسافة التي بينه وبين من يحمل في صدره عشبة الخيانة، والعدم يُطلّ برأسه وردة من خرم في السكينة، محترفاً المتاجرة بالألم، ساعياً إلى ثلاثة أرواح يضمّها إلى وجوده بعد أن يدور دورات سبعاً في الماء: «في المسافة الفاصلة بين الليل وخَوَنته/ عدم يخرم السكينة كوردة... / يتاجر بألمي... يدور في الماء سبع دورات ويخرج ثلاثيّ الروح».ولا شكّ في أن هذه الكثافة من المجاز الصّعب هي قناع لألم غير عاديّ، ألم يرفض الوجود الإنساني في تشكّله المُتَوارَث، ويحتجّ على الضّعف مراهناً على القصيدة لتترك الضّحك وشماً على جبين ميت وتعيد صكّ العبوديّة إلى الله: «أرصف ضحكات على جباه موتاك/ ثمّ أعِد إلى ربّك صكّ عبوديّتك. / وأقِمْ أيّها المسخ في صيحتك حتّى آخر العمر».عبثولا تخفي غنايم سعادتها بالعبث. لا نافذة في لغتها تطلّ على وردة ناجية من شوكة القبح في لحم جمالها. ولا نور ينتصب تمثالاً متواضعاً في آخر النفق. وإذا كان لا بدّ لها من وجه فهي ذات وجه كونيّ مزروع دمامل، وكم هي تحتاج إلى النجاة من قطعان خيالات تزور نومها: «وجهي الكونيّ تكسوه دمامل/ تزرع التّيه العذب قلبي.../ عاقِبوني بشدّة/ بقطع الخيالات عن منامي/ لا تغرّنّكم قسمات وجهي العابث/ ... سأعتنق الرمل خيالاً لأفكاري المنحوسة التي لا تأتي/ كنصر يعتنق هزيمة».والهزيمة هي ظلّ من ظلال غنايم الكثيرة، وقد تكون الظلّ الأكثر إيلاماً. وقد تدرّبَتْ عليها كثيراً، كلّما دفنَتْ رأسها في قلبها المهزوم، إلى أن اصطادت صفة الأنوثة: «مرِّغ رأسك في قلب مهزوم يتدرّب على الموت./ آية شيخوختك أن تتدرّب على الهزيمة الأنثى».وتنجح الشاعرة في حشد الصّور المتعارضة وترغمها على الإقامة في نصّ واحد داعية إيّاها إلى الألفة والتعاون لولادة المعنى الذي وإن أمكن تأويله إلاّ أنّه لا يكون معنيَيْن.فالصمت يتحوّل دبابير تقتات بإبرها من الرّحم: «صمتي دبابير تنهش ما تبقّى من وجع في الرّحم»، والغمام ينتهي إلى رماد، والنّمل يحمل على ظَهره شيخوخته وتحرمه عيونه العاجزة نعمة الوصول إلى الفردوس: «رماد غمام يهجر برفق دفء الرصاصات في صدري: / أندهش... أنخلع كفجر قيامة.../ كنملٍ كهلٍ أضلّ الفردوس»...وإذا كانت اللغة دمية غنايم التي تفهم عليها أكثر من قارئيها بكثير، فإن الاستعارات افترست انتصاراتها باستثناء استعارة ممتلئة موتاً حسدتها غنايم على موتها: «هزمتني كلّ الاستعارات/ إلاّ استعارة ميّتة/ طعنت عيني. ليتني كنتها».وقد يكون الضباب الطالع من صدور المفردات في نصّ غنايم كثيفاً جدّاً، ويحجب رؤية الأرصفة حيث تزدحم خيالات المعاني، إلاّ أنّ الموت لم يتأثّر بهذا الضباب وقد نجا منه ليعلن حضوره بكل وضوح. وحده الموت واضح في مرآة النصّ، واضح بقدر ما لألمه من غموض.تكتب غنايم، وكأنّها على كفنها تكتب: أشمّك يا كفني الفاجر/ أشمّ رائحة البله فيك/ من ظهرك تخرج نوافير من الظّلم/ أسدّها بفمي/ أفتح بابك/ وأهرب». غير أن الهروب هو من ضفّة موت إلى ضفّة موت آخر، من محبرة تسكنها مقبرة إلى محبرة تسكن مقبرة. وما بين محبرة ومقبرة مسافة ضئيلة لا تصلح لأن تسمّى حياة، ولا تتّسع لتربية كائن حميم، هشّ، اسمه: الأمل. والقيامة عند غنايم ليس لها أن تكون غنيمة بعد موت إنّما هي ماء كثير لنوافير الأوهام». «أندفن/ أنبعث/ أنشقّ/ وأصير وهماً لولبيّاً».في «نبوءات» قالت الشاعرة ريم غنايم الحياة لغة شعريّة لافتة بما فيها من موت. وأدّت جملة تتنازل عن بعض من معناها لقارئها، وتحتفظ بما بقي لها.
توابل - ثقافات
ريم غنايم في «نبوءات»... تستدعي الموت شعراً
13-02-2015