لمَ تعلن الصين تدريبات بحرية مشتركة مع روسيا في البحر الأبيض المتوسط البعيد جداً عن أراضيها؟ ثمة جواب عام يرتبط بحرب باردة جديدة ومصالح الصين في الرد على المبادرات الأميركية في المحيط الهادئ، ولكن ثمة أيضاً جواب محلي أكثر تعبيراً ينبع من طبيعة تدخل الصين المتنامي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

Ad

لا شك أن التفسير الجيو-سياسي العام المتوَقع خلال هذا الشهر مميز ومثير جداً للاهتمام، تتركز أهداف الصين العسكرية والأمنية في المقام الأول على المحيط الهادئ، ومن المنطقي أن تأمل بكين أن تتمكن من منافسة القوى الأميركية والأوروبية في باحتها الخلفية، رغم ذلك، تكتسب الصين قيمة رمزية بتقديمها نفسها كقوة تزداد عالمية. ويشكل تدريب بحري في البحر الأبيض المتوسط، وإن كان صغير النطاق، خطوة تُقدِم عليها دولة كبرى؛ لذلك يُعتبر هذا الإعلان مفيداً للتعبير عن جدية الصين والتزامها ببروزها هذا، وقد يكون حتى أكثر قيمة داخل الصين بحد ذاتها، حيث يعزز الرئيس كسي جينبينغ نزعة فخر وطني متنامية تحت شعار "الحلم الصيني".

بالإضافة إلى ذلك، تبدو التدريبات الصينية-الروسية من هذا المنطلق أقرب إلى رد رمزي على جهود الولايات المتحدة لتعزيز العلاقات الأمنية مع جيران الصين الآسيويين، وتشكل زيارة رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي الأخيرة إلى واشنطن خير مثال على ذلك، فقد أطلق آبي مناقشة جادة في اليابان بشأن تعديل دستورها المسالم، محولاً قوة الدفاع عن النفس في هذا البلد إلى ما يشبه جيشاً عادياً.

أما الدافع وراء هذا التغيير، فهو تهديدات الصين الأمنية المتزايدة لجيرانها الآسيويين، فضلاً عن قلق ملحّ في الجانب الياباني بشأن ما إذا كانت الولايات المتحدة مستعدة لخوض حرب بغية الدفاع عن اليابان في الحالات الطارئة. وتشكل زيارة آبي جزءاً من محاولة إدارة باراك أوباما طمأنة اليابانيين، إلا أنها تمنح أيضاً وإن ضمنياً المصداقية لمبادرة آبي الدفاعية.

لا بد من الإشارة في هذا الصدد إلى أن هذا التموضع العسكري من كلا الجانبين، وإن كان رمزياً، يترافق مع تعاون اقتصادي لصيق بين الصين وكل من اليابان والولايات المتحدة، وإن بدا هذا غير مألوف، فلأنه كذلك بالفعل: من أبرز صفات الحرب الباردة اجتماع المنافسة الاستراتيجية والتعاون الاقتصادي. ومن الأسباب الرئيسة التي تسمح للصين بالمضي قدماً في خطوات الاستفزاز البسيطة هذه في البحر الأبيض المتوسط، إلى جانب روسيا المحاصرة بقيادة فلاديمير بوتين، واقع أن هذه الخطوات لن تؤثر في شراكات الصين مع أحد، وخصوصاً الولايات المتحدة والقوى الأوروبية، وبهذه الطريقة تُخاض الحروب الباردة الجديدة.

رغم ذلك، لا تبرر هذه الزاوية الجيو-سياسية بالضرورة اختيار البحر الأبيض المتوسط. كان من الممكن للتدريبات البحرية في أي مكان آخر أن تنقل الأفكار عينها، حتى بقوة أشد على الأرجح، بما أن الأصول البحرية الصينية في البحر الأبيض المتوسط ليست مهمة.

نتيجة لذلك، يبقى التعليل الأفضل لاختيار البحر الأبيض المتوسط محلياً، فقد أرسلت الصين مرتين في السنوات الأخيرة سفنها لإنقاذ وإجلاء عدد كبير من العمال الصينيين الذين شعروا أنهم مهددون بسبب التقلبات الأمنية الإقليمية. كانت المرة الأولى في ليبيا، حيث أجلت الصين 35800 من مواطنيها بعد انتفاضة عام 2011 وحملة القصف التي تلتها وهدفت إلى الإطاحة بمعمر القذافي، أما المرة الثانية فكانت في أواخر شهر مارس ومطلع شهر أبريل، حين ساعدت السفن الصينية في إخراج مئات العمال الصينيين من اليمن، مع تردي الأوضاع في هذا البلد وتصاعد الضربات الجوية السعودية.

أوضحت هاتان الحادثتان دور الصين المتنامي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ولم يعرب صانعو السياسات الصينية حتى اليوم عن اهتمام في أن ترث الصين دور الولايات المتحدة التقليدي الرامي إلى الحفاظ على الهيمنة في الشرق الأوسط بغية بسط الاستقرار وتسهيل تدفق النفط، لكن الصين أدرجت إلى حد ما الشرق الأوسط في استراتيجيتها لبناء مشاريع بنى تحتية في الدول الأقل نمواً وبالتالي إنشاء مستعمرات للعمال الصينيين هناك.

في إفريقيا السوداء، تهدف هذه الاستراتيجية إلى بناء علاقات بين الحكومات والحفاظ على تدفق منتظم للمواد الأولية التي تحتاج إليها الصين كي تنمو اقتصادياً، ويُعتبر النفوذ السياسي الصيني مرتبطاً بالمصالح التجارية، ففي ليبيا مثلاً، كانت هذه الاستراتيجية وراء الوجود الصيني، وما زال عدد مماثل من العمال الصينيين في الجزائر (نحو 40 ألفاً على الأرجح)، فضلاً عن أن العمال الصينيين منتشرون في دول أخرى من المنطقة، مع أن من الصعب تحديد عددهم بدقة.

بمرور الوقت، سيبدل وجود الصين المتنامي في المنطقة اهتمام بكين في البحر الأبيض المتوسط، فلا شك أن الاستثمارات التجارية الكبيرة ستعزز المصلحة الوطنية في نشر الاستقرار، فالاضطرابات الأمنية هي ما دفع الصين إلى إجلاء عمالها، ويشكل هذا سبباً محلياً يشجع الصين اليوم على توسيع وجودها البحري في البحر الأبيض المتوسط، ولكن من الممكن على الأمد الطويل استعمال وجود بحري صيني أكبر بكثير بغية بسط الاستقرار، لا إنقاذ العمال الصينيين فحسب في فترات عدم الاستقرار.

ما أقصده هو أن الصين لا تزال في مراحل باكرة جداً من مهمة تسللها إلى الشرق الأوسط، وأن تدريباتها البحرية الشرق أوسطية تمثل إشارة بارزة إلى المنحى الذي سيتخذه هذا التسلل، فعندما يتحول بلد إلى دولة كبرى، ويصبح مستعداً للتفاخر بوجوده البحري في منطقة ما، يتطلب المنطق الاستراتيجي أن تكون هذه القوة قادرة على تحقيق أهداف استراتيجية، غير أن أسطول الصين في البحر الأبيض المتوسط (إذا أمكننا تسميته كذلك) ما زال يكتفي بأعمال الإنقاذ، لكنه سيُضطر في النهاية إلى إنجاز المزيد، وإلا فسيتحول إلى رمز للضعف الصيني، لا قوة الصين المتنامية.

لا يزال اليوم الذي تصبح فيه الصين قوة مهمة في الشرق الأوسط بعيداً، ويعتمد الكثير على مسار إيران، حليف صيني يزداد نفوذاً في المنطقة، مع أنه يواجه تحديات متواصلة لشرعية نظامه في الداخل، ولكن عندما يُكتب تاريخ بروز الصين في المنطقة، فستُخصَّص صفحة لهذه التدريبات البحرية، ولكن كما ستكتشف الصين فوائد لتأكيد وجودها، فإنها ستكتشف أيضاً أنه يأتي مع كلفة عالية إلى حد ما.

نوح فيلدمان