الجمهور أيضاً يرتكب الأخطاء الكبيرة

نشر في 09-11-2014 | 00:01
آخر تحديث 09-11-2014 | 00:01
 ياسر عبد العزيز كنا في مؤتمر علمي كبير عن "مستقبل الإعلام" في العالم العربي، حين سألني الحضور عن العوامل التي ساعدت على تفاقم الأزمات الإعلامية التي تشهدها بعض الدول العربية راهناً، فقلت إن "الجمهور" أحد أهم تلك العوامل.

لقد انتقد عدد من الحضور تلك الإجابة، معتبرين أن "المساس بالجمهور عمل غير لائق"، وأن "الجمهور لا يخطئ أبداً"، وأن "انتقاد الجمهور هو انتقاد للشخصية الوطنية وتعريض بها".

يحظى الجمهور في بلدان العالم المختلفة بمكانة عالية تجعله بمنأى عن النقد غالباً؛ وهذا الأمر يجعل من الصعوبة الوصول إلى تشخيص واقعي للمشكلات وتحديد المسؤولية عنها، ومن ثم إيجاد طريقة لمعالجتها.

حتى هذه الدول التي تقوم عليها أنظمة شمولية أو فاسدة، تواصل سحق الجمهور كل يوم وسلبه حقوقه وسرقة موارده، في حين تتغنى في المقابل بـ"أمجاده"، وتكرس لديه شعوراً وهمياً بـ"الفخر والتفوق"، وبالتالي تحظر أي محاولة لنقد أدائه أو تحليل سلوكه.

ثمة خلط يجري دائماً، خصوصاً في المجتمعات الأقل تقدماً، بين مفهوم "المواطنين" و"أفراد الجمهور"؛ وهو الأمر الذي يجعل من الصعب جداً، أو الخطير أحياناً، توجيه الانتقادات اللازمة للجمهور، وصولاً إلى محاولة تحسين أدائه، بما يصب في تحقيق المصلحة العامة.

سيجد محافظ الإقليم حرجاً بالغاً في الشكوى من عدم التزام الجمهور بقواعد التخلص من القمامة، وسيمتنع مدير المصلحة الحكومية عن القول إن سوء استخدام المترددين على المصلحة للمصاعد تسبب في تعطلها مرات ومرات.

سيعتبر الجمهور أن كل نقد يوجه إليه ليس سوى "إهانة للمواطنين"، وربما "إهانة للوطن"، وسيكف النقاد عن تناول الجمهور بالنقد خوفاً من اتهامهم بالإساءة إلى "الوطن".

إن فض الاشتباك بين هذين المفهومين ضروري لحل هذا الإشكال، فـ"الجمهور" هو أفراد الجماعة التي تشارك في عمل ما، أو تحصل على خدمة ما، أو تشتري سلعة ما؛ وبالتالي فمفهوم "الجمهور" ليس مفهوماً مقدساً أو ممتنعاً عن التوجيه والنقد.

وقد يكون الجمهور مشتملاً عناصر من جنسيات متعددة، وقد يكون منتمياً إلى جنسية واحدة، لكنه على أي حال لا يستمد وضعه كـ"جمهور" من "وطنيته" أو "جنسيته" أو "انتمائه" إلى قيم معنوية محددة.

لكن "المواطن" هو فرد من الأمة، وعنصر من عناصر الجماعة الوطنية، وممثل لخصائصها، ومشارك في تحديد مصيرها، وصاحب حق في التمتع بعوائد الوطنية، وتحمل واجباتها، وفي كل الأحوال يجب أن يحظى بالتقدير اللائق، لأن كرامته من كرامة الوطن، وكرامة الوطن من كرامته.

إن مفهوم "المواطنة" يستمد أهميته من "الملكية في الوطن"، و"الانتماء إلى الجماعة الوطنية"، وبالتالي فإنه ينطوي على قيمة معنوية يجب احترامها.

ومن ذلك مثلاً، أنه سيمكننا القول إن "جمهور وسائل المواصلات العامة في دولة كذا لا يتمتع بالحد الأدنى اللازم من الانضباط والنظافة والالتزام بالقواعد مما يؤثر في كفاءة الخدمة"؛ وهو أمر لا ينال، بكل تأكيد، من شرف تلك الدولة أو كرامتها أو كرامة مواطنيها.

وبالتوازي مع ذلك، فإن القول إن "مواطني دولة كذا لا يتحلون بالأخلاق الحميدة"، أو إن "مواطني دولة كذا أغبياء"، هو أمر ينطوي على إهانة لتلك الدولة ولمواطنيها، لا يجوز أبداً التورط فيها، حتى لو كان الناقد محقاً في بعض ما ذهب إليه.

وبناء على هذا التحليل الذي يفرق بين المواطن وفرد الجمهور؛ فسيمكنني القول ببساطة إن "مشكلة التلقي" هي أحد أهم أسباب التردي الراهن في المجال الإعلامي العربي.

لم يتأصل مفهوم "التربية الإعلامية" بعد في العالم العربي؛ وبالتالي فإن قطاعاً كبيراً من جمهورنا لم يتعلم الطريقة المثلى للتعاطي مع وسائل الإعلام.

إحدى أهم المشكلات الراهنة في مجال التلقي الإعلامي في العالم العربي تتعلق بعدم قدرة الجمهور على التفرقة بين ما هو خبر وما هو رأي، وبالتالي فإن كثيراً مما يرسخ في عقل الجمهور كحقائق ليس سوى آراء بعضها حاد ومنفلت وليس مبنياً على أي نسق برهنة.

مشكلة أخرى رئيسة تتعلق بغياب السؤال عن المصدر، ستجد عشرات ممن حولك يحدثونك عن أخبار وقعت بوصفها حقائق لا تقبل الدحض، وعندما تسأل عن المصدر، ستكون الإجابة "فيسبوك"، أو "تويتر"، وأحياناً "بيقولوا..."، أو "سمعت".

يعد تغييب المصدر سلوكاً شائعاً بين أفراد جمهور وسائل الإعلام في العالم العربي، بل إن عدم السؤال عن المصدر بات جزءاً من أدبيات التلقي، وبالتالي فإن وسائط التواصل الاجتماعي مثلاً أصبحت تموج بالكثير من الإفادات التي يتم التعامل معها بوصفها أخباراً في وقت لا تستند فيه إلى أي مصدر.

يتسبب ذلك في اختلاق الوقائع، وتشويه الحقائق، وترويج الشائعات، بل أحيانأً كثيرة يحرف اتجاهات الجمهور بصدد قضايا مهمة، ويغتال سمعة البعض، ويشوه آخرين، ويوقع الفتن، ويحرض على العنف، ويعمم حالة الكراهية، ويفقد الجمهور الثقة العامة.

يشجع الجمهور في بعض دول العالم العربي الممارسات الحادة والمنفلتة بإقباله عليها وترويجها و"تشييرها" والحديث عنها وتعزيز أثرها عبر استخدام وسائل الاتصال الذكية الجديدة.

ورغم أن الجمهور ينتقد غالباً الممارسات الحادة والمنفلتة، ويعرب عن استيائه منها، ولا يعلن تعلقه بها ومشاهدتها وقراءتها؛ فإن الأدوات التي منحتها لنا تكنولوجيا التحقق من الانتشار في وسائل الإعلام الإلكترونية باتت تؤكد أن هذا الجمهور "يتحايل ويكذب" أحياناً، وأنه يقبل على مشاهدة الأنماط الإعلامية الحادة وقراءتها، ويستمتع بها، ويبقى معها مدة أطول، ويشجع الآخرين على التعرض لها.

التربية الإعلامية هي محاولة لتعليم الجمهور مهارات التعرض لتواصل الإعلام بطريقة سليمة من شأنها ترقية قدرته على الاستفادة من المحتوى الإعلامي وتجنب أضراره، وهو مفهوم لا بد أن ندعمه... على الأقل في مدارسنا وجامعاتنا.

يرتكب الإعلاميون، والسلطات، وصُناع الإعلام العرب الأخطاء الكارثية الكبيرة... لكن الجمهور في العالم العربي يفعل ذلك أيضاً... ولن يتسنى لنا إصلاح المجال الإعلامي من دون مواجهة الأطراف المختلفة بأخطائها، ومحاولة العمل على تصحيحها.

* كاتب مصري

back to top