في تلك المعارك التي يصعب تحديد الرابحين والخاسرين فيها، تتكفل الدبلوماسية بحسم النتائج، وتسوية الأوضاع، وأحياناً بـ«جبر الأضرار»، لكن ثمة أضرار لا يمكن جبرها أبداً، تتعلق بمن مات أو جُرح أو فقد عزيزاً لديه من جراء تلك اللعبة الدامية.

Ad

لم تنته قصة "عاصفة الحزم" بعد لكي نتمكن من تقييم النتائج وفرز الرابحين من الخاسرين، رغم أن السعودية أعلنت انتهاء العمليات العسكرية نظرياً، مع كشفها عن الخطوة المفترضة التالية... أي عملية "إعادة الأمل"، ولكن مع ذلك سيمكننا أن نجري جردة لما تحقق حتى الآن، قياساً بما كان سائداً قبل اندلاع المعارك، وبما توقعته الأطراف المنخرطة في الصراع، أو أعلنت استهداف تحقيقه.

أول مفاجأة سنكتشفها إذا أجرينا هذا التقييم هي صعوبة إيجاد رابح وخاسر بين الأطراف المنخرطة في تلك الأزمة، وأن النتائج التي تمخض عنها الصراع حتى تلك اللحظة أعطت كل طرف ما يمكن اعتباره "مكاسب" وخصمت من كل طرف ما يمكن تسميته بـ"خسائر".

في تلك الجولة من الصراع السعودي– الإيراني، ليس هناك منتصر ومهزوم، وفي تلك الجولة من "التضاغط العربي- الفارسي"، و"المواجهة السنية- الشيعية" كانت النتيجة تعادلاً سلبياً، فثمة ما يعزز هذا التقييم؛ إذ إن الطرف الوحيد الذي يبدو رابحاً بحق، لم يشارك من قريب أو بعيد، رغم استدعائه، وتوافر ذرائع انخراطه كاملة... ذلك الطرف هو سلطنة عمان.

من حق السلطنة اليوم أن تكرس اليقين مرة أخرى في بُعد نظر سياستها الخارجية، وأن تعزز الثقة بما تقوله عن كونها دولة "مبادئ" بأكثر من كونها دولة "البحث عن دور أو مصلحة طارئة". لو قرأت الصحف أو تابعت الفضائيات والإذاعات المحلية اليمنية، لعرفت أن السعودية تعرضت إلى أكبر عملية "شيطنة" واغتيال معنوي في هذا البلد، الذي كان مجالاً تقليدياً للتأثير والنفوذ السعوديين.

ولو تابعت ما يكتبه الشبان اليمنيون على مواقع التواصل الاجتماعي، أو استعرضت ما يبثونه على مدى الساعة من صور ومقاطع "فيديو"، لعرفت أن ما يسميه هؤلاء بـ"العدوان السعودي" بات مرتكزاً رئيساً في التأريخ للمرحلة، وعنواناً عريضاً للرواية السائدة عنها.

تفيد بعض التقارير المحلية في اليمن بأن الخسائر المادية التي كبدتها عملية "عاصفة الحزم" لهذا البلد الفقير في الأساس، بلغت نحو مليار دولار، فضلاً عن مصرع نحو 950 يمنياً، وجرح الآلاف، وفق ما أعلنت وزارة الصحة.

تلك خسائر منيت بها السعودية، لأنها ستحفر لها صورة سلبية و"عدوانية" في العقل الجمعي لفئات من الشعب اليمني، الذي لن يغادر تلك الخاصرة الرخوة للجار السعودي أبداً.

في المقابل، ربحت السعودية تعزيز الثقة بقدرتها على تشكيل هذا التحالف العريض، وتأمين الغطاء السياسي الدولي، والتأثير في سلوك الأمم المتحدة ليلبي لها معظم مطالبها في إدارة أزمة تنخرط فيها، وفي شن الهجوم، وإدامته لأسابيع، وتقليص قدرات أعدائها على الأرض، وإرباكهم، وتغيير الأوضاع السائدة غير المواتية، تمهيداً لتحسينها، بما يصب في مصلحتها.

قياساً بتعريفها المبدئي للنصر، الذي كان يتعلق بـ"إعادة هادي، وانسحاب الحوثيين وأنصار صالح، وتسليم الأسلحة"، أخفقت السعودية في هذه الحرب.

وقياساً بالوضع السائد قبل اندلاع "عاصفة الحزم"... أي الهيمنة شبه الكاملة للحوثي وأنصار صالح، فقد حققت السعودية تقدماً ملموساً يمكن قياسه.

وقياساً بالتكاليف: السعودية لم تربح ولم تخسر.

باكستان في وضع سيئ جداً، لم تطل "عنب اليمن"، ولا "تمر السعودية"، أعربت عن نواياها تجاه الفريق الإيراني، ولم تكمل المباراة في صفوف الفريق السعودي.

مصر "المضطرة"، كانت هناك، ولم تكن هناك في الوقت ذاته.

لا تملك مصر القدرة على "النكوص" عن التعهد الذي التزمت به أمام "الحليف السخي" السعودي- الخليجي، ولا تملك الطاقة كي تتصرف بما يليق بتاريخها ودورها، ولا تملك الذرائع الأخلاقية التي تمكنها من قصف اليمنيين.

مصر لم تخسر ولم تكسب في تلك الأزمة.

قطر وتركيا، ستضطران إلى ممارسة ألعاب حادة وغريبة كثيرة جداً لتبرير موقفيهما، وستحاولان الاقتراب أكثر من إيران لـ"ترطيب" الأجواء معها، وفي طريقهما لذلك، لكنهما ستخسران على الجانب العربي- الخليجي- السعودي.

إيران مثلها مثل السعودية تماماً، لم تربح هذه المعركة ولم تخسرها.

أعلنت إيران "تفاؤلها بحل سياسي ووقف (عاصفة الحزم)"، قبل الإعلان السعودي بساعات.

حسناً... إن ذلك يوضح لنا بجلاء أن الإعلان عن وقف الهجوم تم إثر اتفاق سياسي، وأن إيران فاوضت، وحصلت على ما كانت تريد الحصول عليه، لذلك بادرت بالإعلان عنه، لكي تعطي الانطباع بأنها فازت، ولكي تبرهن لحلفائها أو "أتباعها" أنها لم تتركهم في مواجهة القذائف وحدهم، بل عملت بجد لكي تنقذهم.

لكن، غداة إعلان إيران عن ذلك "التفاؤل"، وبموازاة الإعلان الرسمي السعودي، كانت القافلة البحرية الإيرانية، التي ذهبت إلى مياه اليمن كي "توازن الوجود الاستراتيجي"، و"تردع الآلة العسكرية المضادة"، تغادر إلى الشمال الشرقي بعيداً.

وبمجرد أن سعى "الحوثيون" وأنصار "صالح" إلى تغيير الأوضاع الميدانية، بشن هجمات على مواقع استعادتها قوات "هادي"، تحت غطاء "عاصفة الحزم"، خرقت السعودية "إعلان إنهاء العمليات" وعادت للقصف من جديد.

الرسالة وصلت إذاً إلى إيران على النحو التالي: لقد تم تغيير الأوضاع على الأرض، لإحداث توازن جديد، يحتم علينا التفاوض. إذا سعى أنصارك إلى استعادة الأوضاع القديمة فسنضرب، وإذا تكرس الوضع الحالي فسنذهب جميعاً إلى "إعادة الأمل".

قياساً بالوضع السابق: إيران تحولت من فريق رابح، أمام منافسين أقل قدرة، في ملعب مفتوح، إلى فريق متعادل، أمام منافسين قادرين، في ملعب تم تحديد أبعاده.

قياساً بتعريف النصر في "عاصفة الحزم": إيران لم تمكن أعداءها من سحقها وسحق أنصارها.

إيران لم تربح ولم تخسر.

في تلك المعارك التي يصعب تحديد الرابحين والخاسرين فيها، تتكفل الدبلوماسية بحسم النتائج، وتسوية الأوضاع، وأحياناً بـ"جبر الأضرار"، لكن ثمة أضرار لا يمكن جبرها أبداً، تتعلق بمن مات أو جُرح أو فقد عزيزاً لديه من جراء تلك اللعبة الدامية.

* كاتب مصري