أدب الرحلات نافذة التعايش الثقافي (5)

نشر في 30-12-2014
آخر تحديث 30-12-2014 | 00:01
 د. نجمة إدريس حين البحث عن نماذج أدبية تعزز قيم التسامح والتعايش وقبول الآخر في العصر الحديث، سوف نعثر على شخصيتين مهمتين كان لمساهماتهما الأدبية والتوثيقية أثر في هذا المقام، وهما: رفاعة الطهطاوي (1801م– 1873م) وأمين الريحاني (1876م– 1940م). أما رفاعة الطهطاوي فيُعد رائد الاستنارة والانفتاح، وخير سفير للتواصل العلمي والثقافي بين الشرق والغرب. وقد نجح من خلال تلك السفارة في الاقتراب من العقلية الغربية والاطلاع على منجزاتها الحضارية. ويبدو أن استعداداته الشخصية للتأقلم والاندماج مع الشعوب الأجنبية وقدرته على استلهام تجاربهم الثقافية والعلمية كانت علامة فارقة في رحلته إلى باريس عام 1826م.

وقصة سفره إلى فرنسا مع البعثة الطلابية التي أرسلها محمد علي معروفة ومتداولة في كتب التاريخ والأدب، وكانت الغاية من مصاحبة الطلبة أن يكون إماماً وواعظاً لهم في غربتهم، ولكنه بذكائه وتوقّده المعرفي استطاع أن يكون أكثر من مجرد واعظ وإمام.

 لقد وجد رفاعة الطهطاوي أمامه الفرصة سانحة آنذاك لتعلم اللغة الفرنسية، ثم وجد في نفسه ذلك الميل إلى دراسة واقع الحياة الثقافية والاجتماعية الفرنسية عن قرب وتتبع شواهدها ومظاهرها، وإبداء الرأي فيما يراه من عادات الشعب الفرنسي وتقاليعه ومعتقداته الفكرية والسلوكية، فضلا عن جمعه المعلومات التاريخية والجغرافية والسياسية. ولم يقف الأمر لدى الطهطاوي عند مجرد المشاهدة والملاحظة، وإنما قام بتوثيق مشاهداته وتجاربه في كتاب ذاع صيته بعد ذلك وأصبح مرجعاً مهماً للدارسين والمؤرخين وهو كتاب (تخليص الإبريز في تلخيص باريز).

 إن الناظر في فصول هذا الكتاب لا بد وأن تلفته تلك الروح الأليفة التي كانت تُقبل بأريحية وتجرّد على وصف حياة (الفرنسيس)، والتي تشي بمدى قربه من المشهد وتعايشه مع صنوف الطباع والتقاليد ومقارنتها بأحوال مصر. وكان يسجل ما يعنّ له من ملاحظات إيجابية أو سلبية دون جور أو مبالغة، مستهدياً بأخلاق العلماء وموضوعية الباحثين، الأمر الذي يعكس معنى التسامح والتعايش في أبهى صوره.

 ولعل سمة قبول الأجنبي وتحقيق هدف التثاقف الحضاري معه كان قد بدا في أبهى صورة لديه، حين مضى قدماً لتحقيق مشروع إنشاء مدرسة عليا لتعليم اللغات الأجنبية، ومن ثم إعداد طبقة من المترجمين مهمتهم ترجمة العلوم الحديثة من كتب الغرب، للانتفاع ومواكبة الحياة العلمية العصرية. وتقدم باقتراحه إلى محمد علي ونجح في إقناعه بتأسيس مدرسة عليا للترجمة سمّيت بمدرسة الألسن وذلك عام 1835م.

  وتولى الطهطاوي إدارة المدرسة التي ضمت فصولاً لتدريس اللغة الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والتركية والفارسية، باذلاً جهداً كبيراً ودؤوباً لإنجاح هذا المشروع وتخريج دفعاته تباعاً. وقد كان للطهطاوي مترجماته الخاصة التي نيّفت عن خمسة وعشرين كتاباً، عدا ما أشرف عليه من الترجمات وما راجعه وصححه وهذّبه. ولعله غني عن البيان ذكر ما للترجمة من فضل لا ينكر في التقريب بين الشعوب وإتاحة فرص التعارف والتثاقف، هذا إن لم تكن البوابة الأوسع نحو تكريس قيم التسامح وفهم الآخر المختلف.

 أما الشخصية الأخرى في سياق الريادة لتكريس قيم الانفتاح والتعايش، فهي شخصية أمين الريحاني، الذي بدأ انطلاقته بالهجرة إلى أميركا، حيث الدراسة والعمل والبدء بالمشاريع الكتابية.

 ولكن ما يهمنا من سيرة الريحاني في سياق هذا الموضوع هو البدء في رحلاته التاريخية والتوثيقية عبر البلاد العربية بصحاريها وأقاليمها وممالكها الشاسعة التي كانت ما تزال بكراً مطلع القرن العشرين. انطلق الريحاني عام 1922م ليبدأ رحلاته من الجزيرة العربية، حيث التقى بشريف مكة الحسين بن علي، ثم الإمام يحيى إمام اليمن وعبدالعزيز آل سعود، الذي أهداه سيفه الخاص.

 أما نزوله إلى الكويت فنجد له مرجعاً موثقاً صادراً من مركز البحوث والدراسات الكويتية، حيث يأتي الذكر على دخوله إلى الكويت عبر (حفر الباطن) ثم الجهراء ثم مدينة الكويت. وقد التقى الريحاني حينها بأمير الكويت الشيخ أحمد الجابر الصباح، وسجل ملاحظاته حول النشاط التجاري والاقتصادي، إلى جانب خطبته في المدرسة المباركية.

 بعدها واصل الريحاني رحلاته نحو البحرين، حيث التقى شيخها أحمد بن عيسى، ثم ملك العراق فيصل الأول. ولعل العنصر الأهم في هذه السياحة التاريخية هو ما تمخضت عنه من توثيق علمي عن هذه البلاد وسياسات الحكم فيها في كتب مهمة مثل (ملوك العرب) الذي صدر عام 1924م، و (تاريخ نجد الحديث) الذي صدر 1927م، و(ابن سعود شعبه وبلاده)، وكذلك تدويناته عن رحلاته بالعربية والإنجليزية وغيرها من المؤلفات ذات الصلة.

  إذا أخذنا بعين الاعتبار أن أمين الريحاني من أدباء المهجر، وأنه أسس شخصيته الأدبية والفكرية في أميركا، فيمكن حينها أن ندرجه ضمن العرب المغتربين الذين استقامت لهم الحياة هناك فاكتسبوا الهوية الأميركية، مع الاحتفاظ بالجذور الأصيلة للغة والعرق. وعليه فالريحاني لبناني- أميركي يجمع بين هويتين ولغتين وانتماءين. فجاءت رحلاته أشبه بالاكتشاف البكر للممالك العربية وصحاريها بعين مغترب يهمه أن يكتشف ويدوّن ويوثّق ملاحظاته ومشاهداته.

 ويبدو أن الريحاني إلى جانب الشغف الشخصي بالاكتشاف والتعايش مع تجربة الارتحال، كان أيضاً يعمل في مهنة سفير للولايات المتحدة. فقد ذكر في سيرته أنه زار واشنطن وناقش مسألة إعداد تقرير مفصل عن رحلته. وهذا ما تم حين قدّم التقرير بعد ذلك مفصلاً في خمسين صفحة تغطي مناطق الجزيرة العربية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً واجتماعياً، وذلك قبل أن يضعها في متن كتاب. وبالنظر إلى الجوانب الإيجابية لمثل هذه الجهود في الاكتشاف والتدوين والتأريخ يمكن أن نتلمس مشهداً من مشاهد التقارب الثقافي، ونموذجاً للتعايش وقبول الآخر.

back to top