التطوير الذاتي علم له أصوله وقواعده، يحتاج بالضرورة ممن يريد تعلمه وتطبيقه أن يؤمن به أولاً، لا أن يقدم عليه بروح المتشكك المكذب، فمن شأن هذا النفسية المتجافية السلبية أن تكون حاجز صد بين كل متعلم والعلم الذي يحاول تلقيه، بل قد ثبت علمياً أن النفسية المتشككة السلبية قادرة حتى على إفشال العلاج الطبي القائم على الأدوية.

Ad

الحديث حول موضوع التطوير الذاتي وبرامجه وأنشطته المنتشرة، حديث لا يتوقف، وهو يمتلئ في الغالب بالكثير من الاجتهادات والآراء الشخصية، والقليل من المستندات والدلائل العلمية، كما أنه حديث يتدرج كألوان الطيف، من أقصى يمين العاشقين المؤمنين بهذه البرامج، إلى حد تصديق أنها وصفات سحرية تصنع الأعاجيب وتسيطر على الطاقة الكامنة وتحرك الهالات وتقيم المعجزات، وأن أهلها من الصالحين أهل القدرات الخارقة وربما الكرامات، إلى أقصى شمال الكارهين المكذبين لها، ممن يرونها أكاذيب وضحكاً على الذقون، وأن المشتغلين بها هم شرذمة من النصابين الكذابين، وفي أحسن الحالات، الفهلوية الشطار!

المسألة في الحقيقة، ليست إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وإنما تقع في منطقة وسيطة بينهما. صحيح أن هناك من امتهنوا تقديم هذه البرامج والدورات، من غير المتخصصين فيها حقاً، فكانوا باعة للوهم والخداع، وكذلك صحيح أن هناك في الجانب المعاكس من المتخصصين في هذه الأنشطة مَن يقدمون استشارات وبرامج ودورات ناجحة لها أثر طيب على مستويات متعددة في حياة من يتلقونها، لكن هاتين الحالتين استثنائيتان لا يجب أن يقاس عليهما دائماً.

وهنا، من المهم أن أقول: إن كنت، أيها القارئ، ممن يؤمنون بأن الإنسان أسير لخريطته الوراثية، وأن أسلوب تصرفاته وطباعه وخصاله منقوشة في جيناته، ولا تقبل التغيير أو التعديل، ولا مجال لتغيير رأيك هذا، فلا داعي لتكملة المقال وإضاعة وقتك، لأنه يقوم في الأساس على عكس ذلك، فقناعة كاتب المقال، راسخة بأن الإنسان بشيء من التعلم وبذل الجهد لذلك، لقادر على تغيير أفكاره وسلوكياته وعاداته، وذلك على درجات، لإيماني بأن "العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم"، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.

ولهذا فأنا مقتنع بأن التطوير الذاتي وأنشطته العلمية السليمة، وهنا أشدد على مصطلح "العلمية السليمة" لما له من دلالة ضابطة مهمة عندي، هو علم حقيقي، له أثره الملموس على متعلميه، لكنه، في ذات الوقت، ليس سحراً، ولا مجالاً خارقاً صانعاً للمعجزات.

التطوير الذاتي علم له أصوله وقواعده، يحتاج بالضرورة ممن يريد تعلمه وتطبيقه أن يؤمن به أولاً، لا أن يقدم عليه بروح المتشكك المكذب، فمن شأن هذا النفسية المتجافية السلبية أن تكون حاجز صد بين كل متعلم والعلم الذي يحاول تلقيه، بل قد ثبت علمياً أن النفسية المتشككة السلبية قادرة حتى على إفشال العلاج الطبي القائم على الأدوية حين يفقد المريض ثقته بقدرة طبيبه على العلاج أو يفقد الأمل في الشفاء، فما بالكم بقدرتها على منع العقل والنفس من تقبل العلم واكتسابه. وكذلك، في الكفة الأخرى، على مَن يريد أن يتعلم هذا العلم، سواء لنفسه أو ليعلمه للآخرين، ألا يفترض فيه ما ليس فيه، وألا يحمّله أكثر من طاقته، فلا يخرجه عن حدود قدراته.

التطوير الذاتي، ككل العلوم الأخرى، يمكن تعلمه والتدرب عليه، ليمكن بعدها تطبيقه في الواقع، فينجح مرات وقد يفشل مرات، وفقاً للظروف والعوامل المحيطة به، وكذلك وفقاً لمقدار اجتهاد الفرد في تعلمه وإجادة استخدامه، وكل العلوم بعد تعلمها والتمكن منها وكثرة ممارستها، تنفذ إلى الذاكرة وترسخ في صميمها، ومن ثم تتكرس وتنعكس على سائر سلوكيات الفرد وتصرفاته، بمقادير مختلفة بين فرد وفرد لطبيعة الفروقات الشخصية. وكذلك هو أيضاً، ككل العلوم الأخرى، عرضة للنسيان والفتور، مع قلة الاستذكار وضعف الممارسة، ولهذا ينصح دائماً بالاستمرار في مراجعته، سواء من خلال القراءة أو إعادة التدرب، وأتذكر هنا مقولة جميلة للأستاذ الشهير في مجال التطوير الذاتي والتحفيز، زيج زيجلار، حين قال: "يقول الناس إن الدورات التحفيزية لا يستمر أثرها طويلاً، ونقول بأن الاستحمام كذلك، ولهذا نوصي بتكراره دائماً".

يمكن لعلوم التطوير الذاتي، مثلاً، أن تعلم الإنسان كيف يفكر بطريقة منهجية، وكيف يضع قوائم أولوياته الحياتية، وكيف يضع الخطط لتنفيذها، وكيف يحسن استخدام وقته وموارده للوصول إلى ذلك، ويمكنها أن تزوده بأدوات التواصل مع الآخرين، وكيف ينجح في علاقاته الإنسانية، وهذا كله ليس من خلال السحر أو "الجذب أو الطاقة"، وإنما من خلال تعليم المبادئ الإدارية التي ثبت نجاحها في بيئات الحياة والعمل المختلفة على مر العصور وفي مختلف الأماكن. الأمر بمثابة استنساخ للتجارب والخبرات الإنسانية المختلفة وإعادة تطبيقها، وتطويرها وتحسينها، وفقاً لظروف كل إنسان، ولهذا يعتمد الأمر كثيراً على قدرة وقابلية الفرد لاستيعابها وإحسان تطبيقها.

هذه هي برامج التطوير الذاتي، وفقاً لفهمي وممارستي لها شخصياً، سواء كمتعلم أو معلم، أما ما عدا ذلك مما ينتشر، فهو ليس منها في شيء في قناعتي، ولذلك أنصح أن يعرض الواحد منكم ما يمر عليه من كتب ودورات وبرامج للتنمية والتطوير البشري، على هذا المعيار البسيط الذي شرحته أعلاه، فإن توافقت معه فله أن يأخذها، وإن وجدها قد خرجت عنه، فالأفضل والأسلم أن يبتعد عنها!