شركات الشعب
يشهد العالم اليوم اثنين من تحولات القوة الكبرى، التحول الأول يتمثل بنمو قوة الشركات نسبة إلى الحكومات، ويتلخص الثاني في أن الأشخاص العاديين أيضاً يكتسبون قدراً متزايداً من النفوذ، ولكن ماذا يعني حدوث هذين التحولين المتناقصين ظاهرياً في نفس الوقت؟لا شك أن الشركات تتمتع الآن بقدر من القوة أكبر من أي وقت مضى، فالآن يسيطر أشخاص لم يُنتَخَبوا شعبياً على المزيد والمزيد من حياتنا اليومية، من الترفيه وإمدادات الطاقة إلى المدارس والسكك الحديدية والخدمات البريدية، ومن ناحية أخرى تفوق سرعة الإبداع التكنولوجي قدرة التشريعات على ملاحقتها، وهذا يعني أن الأنشطة التي تزاولها الشركات تدخل بشكل روتيني إلى مناطق رمادية خالية من القواعد التنظيمية.
ولكن ما يوازن هذا الاتجاه أن الناس لديهم الآن السبل والفرص لضمان عدم انغماس الشركات في سلوكيات لا ضابط لها ولا رابط، فقد أصبحوا أكثر تعلماً وإدراكاً لكيفية عمل الشركات، وأكثر نشاطاً وجرأة عندما يعتقدون أن شركة ما تجاوزت الحدود. إن جماهير الناس تعمل على نحو متزايد وكأنها ضمير الشركات والصناعات، وتطرح عليها الأسئلة الصعبة وتحملها المسؤولية عن تصرفاتها.في السنوات القليلة الماضية، اكتسب الناس المزيد من السبل الفعّالة للعمل الجماعي- مثل وسائل الإعلام الاجتماعية ومنصات النشر المفتوحة وتبادل مقاطع الفيديو على الإنترنت- وهو ما أعطاهم المزيد من أدوات النفوذ. ومع متابعة الناس لحملات المقاطعة وسحب الاستثمارات، وممارسة الضغوط لاستنان التشريعات، فضلاً عن شن الحملات النشطة على وسائل الإعلام الاجتماعية بقدر متزايد من التطور، باتوا قادرين بشكل متزايد على التأثير في عملية اتخاذ القرار التشغيلي والاستراتيجي في الشركات، وبالتالي فرض الضوابط والتوازنات على القوة المتنامية الهائلة التي يتمتع بها القطاع الخاص اليوم.كان هذا بمنزلة وعيد صارخ بالنسبة إلى بعض الشركات، ولنتأمل هنا مسألة تسرب النفط إلى خليج المكسيك في عام 2010 بسبب أنشطة شركة بريتيش بتروليوم، كان التسرب الناجم عن أنشطة بريتيش بتروليوم من الحالات الأولى التي اضطرت فيها شركات إلى التعامل مع قوة وسائل الإعلام الاجتماعية، وحيث أدرك الناس القدرة الكامنة في الأدوات المتاحة لهم، ومثلها كمثل أغلب الشركات في ذلك الوقت، كانت بريتيش بتروليوم معتادة على التواصل مع مراكز القوة التقليدية- البيت الأبيض والكرملين وما إلى ذلك- وعلى القيام بذلك عن طريق وسائط الاتصال التقليدية، مثل عقد مؤتمر تدعو إليه مجموعة منتقاة بعناية من الصحافيين وتوزيع تصريحات صحافية صيغت بدقة.ثم جاء تسرب النفط إلى خليج المكسيك لكي يتغير كل هذا، فقد اتحدت المجتمعات حول قضية واضحة ووجدت صوتاً لها على صفحات الفيس بوك، ودارت محادثات مطولة لم تكن بريتيش بتروليوم طرفاً فيها ولم تكن قادرة على السيطرة عليها من خلال الطرق التقليدية لإدارة الاتصالات.ومنذ ذلك الحين، طرأت زيادة ملحوظة على هذا النوع من العمل المباشر، فنشرت وسائل الإعلام الاجتماعية الأفكار بطريقة مباشرة وغير مقيدة، حيث يتم تبادل الوثائق والصور ومقاطع الفيديو، وفجأة يتحول ما كان سراً أو قراراً محمياً إلى أمر مكشوف عالميا، ورغم أن المعلومات الخاطئة أو الكاذبة تنتشر بنفس السرعة التي تنتشر بها المعلومات الصادقة، فإن التصحيحات سريعة هي الأخرى غالبا.وبالنسبة إلى الشباب الأحدث سناً اليوم، أصبح استخدام وسائل الإعلام الاجتماعية كأداة لمزاولة مثل هذه الأنشطة بمثابة العادة، وهم يجيدون استخدام اليوتيوب والتويتر والفيسبوك وريديت للتواصل وخلق مجتمع حول الفكرة أو القضية أو الاعتراض، وتعزيز نمو مجموعات صغيرة إلى حركات شعبية، والواقع أن المواطنين الأكبر سناً لا يتأخرون عنهم كثيرا. مع تزايد قوة المؤسسات، يصبح تحميلها المسؤولية عن تصرفاتها أمراً متزايد الأهمية، ولا بد أن يتسع نطاق المساءلة أيضا، من أجل التأثير في سلوك المسؤولين التنفيذيين وغير التنفيذين على حد سواء، وسوف يكون أعضاء مجالس إدارات الشركات عُرضة للمساءلة على نحو متزايد عن مدى نجاحهم في مساءلة أصحاب المناصب الكبرى في الشركات.وبصحبة كل هذا تأتي ثقافة التشكيك في كل ما لم يكن من قبل موضعاً لأي تشكيك، بما في ذلك كيف تدار الشركات وما إذا كانت تصرفات منظمة ما أخلاقية، إن أي تصرف يقبل التشكيك فيه من أي شخص، وإذا وجد آخرون هذا الأمر مثيراً للاهتمام أو على قدر من الأهمية، فلن ينتشر التساؤل فقط في إطار مجتمع صغير أو مجموعة متخصصة، بل على نطاق أوسع وفي مختلف أنحاء العالم.وكان هذا التحول سبباً في تغيير طبيعة النشاط والعمل الجماعي، كما أتاح الفرصة لظهور أشكال جديدة من الحلفاء، مع مستثمرين ناشطين مثل كارل آيكان ينشرون نواياهم واستجابة الأسواق لها على موقع "تويتر"، وعلى نحو مماثل، فإن أولئك الذين قد ينظرون إلى المستثمرين الناشطين في ظل ظروف أخرى باعتبارهم خصوماً طبيعيين من الممكن أن يتفقوا معهم على المواقف التي يتخذونها، مثل المخاوف بشأن تعويضات المسؤولين التنفيذيين أو المسؤولية الاجتماعية للشركات.وبوسع المستثمرين الناشطين أن يبعثوا برسائل مفتوحة قد لا تلتقطها المنافذ الإعلامية الرئيسية، ولكنها من الممكن أن تنتشر كالنار في الهشيم بنشرها على "تويتر" أو "ريديت"، وغالباً يكون هذا كافياً لحمل مجالس الإدارات واللجان التنفيذية على الانتباه.الواقع أن قادة الشركات الذين يتبنون هذا الواقع الجديد، وينظرون إليه باعتباره فرصة، ويقاومون الميل إلى "إدارة" أو تجنب قضايا بعينها، سوف يحظون بميزة تنافسية، فهم لن يعتبروا الاجتماع بالناس حيث هم كوسيلة لاستغلالهم، بل فرصة لسماع ما يقولون، ولن يكون دافعهم الأول التوصل إلى الكيفية التي يمكنهم بها استخدام الوسائل الحديثة لتوجيه الاتصالات وإقناع العملاء والموظفين وغيرهم من أصحاب المصلحة بالتفكير في الأمور التي يريدونهم أن يفكروا فيها والقيام بما يريدون منهم القيام به، بل إنهم بدلاً من ذلك سوف يحدثون تغييرات حقيقية، وسوف تكون أحوالهم أفضل نتيجة لهذه التغييرات.إن الشركات تصنع سياراتنا وهواتفنا وكتب أطفالنا المدرسية، وتمارس قدراً متزايداً من السيطرة على حياة الناس اليومية ومصائرهم في مختلف أنحاء العالم، وليس من يستخدمون منتجاتها فحسب بل أيضاً هؤلاء الذين يعملون لديها وأولئك الذين يعيشون في المجتمعات التي تتخذها مقراً لها، وإذا لم تتعامل الشركات بجدية مع المسؤوليات المصاحبة لقوتها الكبيرة والمتنامية، فسوف يكون الناس هناك دوماً لتذكيرها.لوسي ماركوس | Lucy P. Marcus* الرئيسة التنفيذية لمؤسسة ماركوس لاستشارات المشاريع.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»