منذ منتصف القرن المنقضي ومنطقتنا العربية فوق صفيح ساخن، فمن حرب إلى أخرى، ومن نزاع مُسلّح إلى آخر وهو ما جعل المنطقة تتحوّل، بفعل فاعل، إلى بؤرة توتر دائم سمح لدول الاستعمار القديم التي سحبت جيوشها التقليدية في البقاء، من الناحية العملية، في المنطقة والتحكم فيها من خلال أنظمة تابعة اقتصاديا، وبالتالي سياسيا، للنظام الرأسمالي العالمي، وذلك باعتبار منطقتنا منطقة نفوذ ومصالح حيوية للشركات الرأسمالية الكبرى أو المسماة "متعددة الجنسيات".
وبالرغم من أن الشعوب العربية قد قاومت هذا الوضع السيئ، ولو بدرجات متفاوتة، فإنه استمر حيث استخدمت الأنظمة الاستبدادية التابعة جميع وسائل القهر والقمع لإسكات الأصوات المعارضة التي تدعو إلى الإصلاح السياسي، وتوسيع المشاركة الشعبية وإنهاء التبعية، وبالتالي استمرت دائرتها الضيقة في احتكار السلطة ونهب الثروات الوطنية. علاوة على ذلك فقد استخدمت الأنظمة القمعية العامل الديني وبطريقة فجة وغير مسبوقة؛ من أجل تبرير سيطرتها وديمومتها، حيث سمحت لتيارات الإسلام المُسيس التي ترفع شعارات دينية فضفاضة وعاطفية بالعمل في المجال العام تحت رعايتها ودعمها المباشر، بل إن بعض الطغاة مثل السادات والنميري والقذافي وصدام أضفوا على أنفسهم هالة دينية مصطنعة لقيت من يباركها من القوى الدينية المُسيسة.وقد استمر هذا الوضع السياسي المزري إلى أن تفجر ما سُميّ ثورات الربيع العربي التي كشفت الوضع على حقيقته، فهناك شعوب متعطشة للحرية، تبحث عن عيش كريم، وأمن اجتماعي، وكرامة إنسانية، وتنمية، وعدالة اجتماعية، في مقابل أنظمة سياسية متخلفة تحتكر فيها مجموعة قليلة السلطة والثروة وتوزع ثروات الشعب على الدائرة الضيقة الملتصقة بها، ثم تحاول بكل ما تمتلك من قوة قمع أي رأي آخر حتى لو كان يُنبّه، مجرد تنبيه، للخلل الموجود في إدارة الدولة والفساد المؤسسي الذي ينخر في مفاصلها الأساسية مما يهدد بقاءها ككيان.وكما ذكرنا في مقال سابق فإن تجريف العمل السياسي وإغلاق المجال العام أمام القوى المتنورة وقمعها قابله على الطرف الآخر تنامي جماعات يمينية فاشية تعمل تحت رعاية أنظمة القمع والاستبداد، وترفع شعارات دينية عامة استطاعت من خلالها كسب تعاطف قطاعات شعبية اكتشفت فيما بعد، أي بعد أن دفعت الثمن غاليا، زيف هذه الشعارات، وأن القوى والتيارات التي ترفعها أشد استبداداً وأكثر تخلفا من الأنظمة القمعية المرفوضة.والآن، بالرغم من صعوبة مرحلة التحول الديمقراطي وتعقيدها وضبابية المشهد السياسي الحالي وعدم وضوح الرؤية لدى بعض التيارات السياسية، فإن الشيء المُفرح والواعد هو أن الشعوب العربية وقواها الحيّة وفي طليعتها شباب الإصلاح والتغيير الديمقراطي قد عرفوا، بعد معاناة قاسية، أن تحقيق مطالبهم المُستحقة والعادلة لن يتحقق إلا في الدولة المدنيّة الديمقراطية، حيث الدستور المدني المتوافق عليه من الجميع، والمواطنة الدستورية المتساوية، وتكافؤ الفرص، وسيادة القانون والعدالة الاجتماعية والتعايش السلمي بين المكونات الاجتماعية والسياسية كافة، وهو الأمر الذي يتطلب اصطفافات سياسية جديدة تقام على أسس مدنيّة ديمقراطية واضحة وصريحة.
مقالات
الدولة المدنيّة هي الحل
02-03-2015