ضمن شلال من الإصدارات اليومية البائسة في الرواية والقصة والشعر، صار صعباً جداً العثور على كاتب يهزّ هدأة روحك، ويفتّح عينيك على شؤون الحياة اليومية، ويقتسم وجع اللحظة الإنسانية معك، ويحفر اسمه على لحم قلبك.
"تشارلز بوكوفسكي-Charles Bukowski" في قصيدة له بعنوان "بكل تأكيد" يقول: "هناك في الحياة ما هو أسوأ / من أن تكون وحيداً / لكن غالباً يتطلّب الأمر دهراً / لإدراك ذلك / وغالباً حين تدرك ذلك / يكون قد فات الأوان / وليس ثمة ما هو أسوأ / من فوات الأوان".إن الأدب المبدع حقاً هو ذاك الذي يفرش أمام القارئ الشأن العادي الذي يمرّ به كل يوم دون أن يدرك ما يكمن وراءه: "عرفتُ الجوعَ مرات عدة / لكن المرة التي لا أنساها / كانت في نيويوك ستي، / كان أول المساء / وكنتُ واقفاً أمام واجهة مطعم / وفي تلك الواجهة كان ثمة خنزير مشوي / وكان بلا عينين / مع تفاحة في فمه. / يا للخنزير المسكين / يا للخنزير المسكين. / وراء الخنزير كان الناس جالسين إلى الطاولات / يتكلمون ويأكلون يشربون / ولم أكن واحداً منهم. / شعرت بقرابة مع الخنزير. / كلانا علق في المكان الخاطئ / وفي التوقيت الخاطئ. / تخيلت نفسي في الواجهة، / بلا عينين، مشوياً، مع تفاحة في فمي. / من شأن هذا أن يجلب حشداً / "هاي، كم هو هزيل!" / "كم ذراعاه رفيعان!" / " أستطيع رؤية قفصه الصدري!" / سرتُ مبتعداً عن الواجهة. / مضيتُ إلى حجرتي"."تشارلز بوكوفسكي" (1920-1994) شاعر أميركي وُلِد في مدينة أندرناخ، غرب ألمانيا، وبعد سنتين هاجرت عائلته، أمه الألمانية وأبوه الأميركي، إلى الولايات المتحدة الأميركية، عاش حياته في ولاية "لوس أنجلس-Los Angeles" وفيها كتب أعماله القصصية والشعرية والروائية. أبصر الحياة في فترة "الكساد الكبير-Great Depression"، وعاش طفولة قاسية خاصةً وعلاقته بأبيه عصبي المزاج، مما طبع علاقتهما بطابع الخصام، وظل ذلك هاجساً يصاحب الشاعر طوال حياته: "أتنقل في منزل أبي، الذي امتلكه بثمانية آلاف دولار بعد عشرين سنة من الوظيفة نفسها، وأنظر إلى حذائه الميت، الطريقة التي لوت فيها قدمه جلد الحذاء، كأنه شخص غاضب يزرع الورود، وكان كذلك، وأنظر إلى سيجارته الميتة، وأشعر أنه عليَّ إعادة صنعها، لكنني لا أستطيع، فالأب سيّدك حتى حين يرحل".تنقل تشازلر بين وظائف كثيرة: "غاسل صحون في مطعم، سائق شاحنة، ساعي بريد، موظف مرأب، حاجب فندق، عامل ملحمة" وغيرها، وحين ملَّ تشتته بين الوظيفة والكتابة، بعث في عام 1969، برسالة إلى أحد أصدقائه كتب فيها: "لدي خياران، إما أن أبقى في مكتب البريد وأصاب بالجنون، وإما أن أستمر في الكتابة وأموت جوعاً، وقد قررت الموت جوعاً". لكن الواقع أن تشارلز لم يمت جوعاً بعد أن أنهى كتابة روايته الأولى "مكتب البريد"، ليعرف إبداعه الطريق إلى دول أوروبا قبل أن ينتبه إليه الجمهور الأميركي. وإذا كان تشارلز قد عشق أناس الهامش وحياة الهامش وعاش نبض ذلك الهامش وكتب عنه، فإنه على مستوى الشهرة في بلده ظل شاعراً بعيداً عن الأضواء، يكتب قصيدة فيها من القص بقدر ما فيها من الشعر، "حديقتي": "في الشمسِ وفي المطر / في النهارِ وفي الليل / الألمُ زهرةٌ / الألمُ زهور / تتفتح طوال الوقت".ديوان "الحب كلبٌ من الجحيم" ترجمة: سامر أبو هواش، عن دار كلمة، ومنشورات الجمل، 2009
توابل - ثقافات
تشارلز بوكوفسكي
06-05-2015