في عصر التيسير الكمي، فقدت السياسة النقدية أي مظهر من مظاهر الانضباط والتماسك، وبينما يحاول دراجي الوفاء بالتعهد الذي بذله قبل عامين ونصف العام فإن حدود وعده قد تصبح واضحة وضوح الشمس، ومثل القوارض على حافة الهاوية تبدو البنوك المركزية غارقة في إنكار المخاطر التي تواجهها.

Ad

كما كان متوقعا انضم البنك المركزي الأوروبي إلى السلطات النقدية الأخرى الرئيسية في العالم في التجربة الأكبر على الإطلاق في تاريخ البنوك المركزية، والآن، أصبح النمط معتاداً إلى حد كبير، فأولا تخفض البنوك المركزية سعر الفائدة التقليدي إلى "حد الصفر" المخيف، وفي مواجهة الضعف الاقتصادي المستمر، ولكن مع نفاد الأدوات التقليدية، تتبنى النهج غير التقليدي المتمثل بالتيسير الكمي.

والنظرية وراء هذه الاستراتيجية بسيطة: فمع عجزها عن خفض سعر الائتمان إلى مستويات أدنى، تحول البنوك المركزية تركيزها إلى توسيع كَم الائتمان، والحجة الضمنية هي أن هذا الانتقال من السعر إلى تعديلات الكَم هو المعادل الوظيفي لتخفيف السياسة النقدية، وبالتالي فإن البنوك المركزية حتى عند بلوغ أسعار الفائدة الاسمية حد الصفر تظل تملك بعض الأسلحة في ترسانتها.

ولكن هل ترقى هذه الأسلحة إلى مستوى المهمة المطلوبة منها؟ الواقع أن هذا السؤال، بالنسبة إلى البنك المركزي الأوروبي وبنك اليابان، وكل منهما يواجه مخاطر الجانب السلبي الهائلة التي تهدد الاقتصاد ومستويات الأسعار الكلية، ليس بالسؤال الخامل على الإطلاق، وبالنسبة إلى الولايات المتحدة، حيث لم تتبين العواقب النهائية للتيسير الكمي بعد، فإن الإجابة لا تقل أهمية.

إن تأثير التيسير الكمي يتوقف على ثلاثة عوامل مرتبطة بالسياسة النقدية: النقل (القنوات التي من خلالها تؤثر السياسة النقدية على الاقتصاد الحقيقي)؛ والثِقَل (استجابة الاقتصادات للتدابير السياسية)؛ والاتساق الزمني (المصداقية الثابتة لوعد السلطات بالوصول إلى أهداف محددة مثل التشغيل الكامل للعمالة واستقرار الأسعار). وعلى الرغم من احتفاء الأسواق المالية بالتيسير الكمي، ناهيك عن تهنئة بنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي لنفسه بحرارة، فإن التحليل القائم على هذه العوامل الثلاثة لابد أن يجعل البنك المركزي الأوروبي يعيد النظر.

فمن حيث النقل، ركز بنك الاحتياطي الفدرالي على ما يسمى تأثير الثروة، فأولا، تسبب توسع الميزانية العمومية إلى نحو 3.6 تريليونات دولار منذ أواخر عام 2008- والذي تجاوز كثيراً نمو الناتج المحلي الإجمالي الاسمي بنحو 2.5 تريليون دولار على مدى فترة التيسير الكمي- في تعزيز أسواق الأصول، وكان المفترض أن يساعد التحسن في أداء محافظ المستثمرين- والذي انعكس في ارتفاع مؤشر ستاندرد آند بورز 500 بأكثر من ثلاثة أمثال المستوى المتدني الذي بلغه بفِعل الأزمة في مارس 2009- في تحفيز موجة من الإنفاق من مستهلكين متزايدي الثراء. واستخدم بنك اليابان مبرراً مماثلاً لسياسة التيسير الكمي والنوعي.

ولكن البنك المركزي الأوروبي سوف يواجه وقتاً أصعب في محاولة دعم حجة تأثيرات الثروة، ويرجع هذا إلى أن ملكية الأسهم من أفراد (سواء بشكل مباشر أو من خلال حسابات التقاعد) أقل كثيراً في أوروبا مقارنة بالولايات المتحدة أو اليابان، وبالنسبة إلى أوروبا يبدو من المرجح أن تنتقل السياسة النقدية عبر البنوك، وأيضاً من خلال قناة العملة، في حين يعمل اليورو الأضعف- الذي انخفض بنحو 15% في مقابل الدولار على مدى العام الماضي- على تعزيز الصادرات.

وتتعلق نقطة الخلاف الحقيقية في التيسير الكمي بالثِقَل، وتُعَد الولايات المتحدة، حيث يشكل الاستهلاك القسم الأكبر من النقص في التعافي في مرحلة ما بعد الأزمة، مثالاً واضحا، ففي بيئة تتسم بالديون المفرطة ونقص المدخرات، لم تفعل تأثيرات الثروة إلا أقل القليل لتحسين ركود الميزانية العمومية الذي ضرب الأسر الأميركية عندما انفجرت الفقاعة العقارية والفقاعة الائتمانية، والواقع أن نمو الاستهلاك الحقيقي السنوي بلغ في المتوسط 3.1% فقط منذ أوائل عام 2008، ولأن التعافي الحالي في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي أصبح على مسار نمو سنوي بنسبة 2.3 في المئة- أقل بنقطتين مئويتين من القاعدة في الدورات السابقة- فمن الصعب أن نجد مبرراً للإشادة الواسعة النطاق بالتيسير الكمي.

وقد واجهت حملة التيسير الكمي والنوعي الهائلة في اليابان مشاكل مماثلة مرتبطة بالثِقَل، فبعد توسيع ميزانيته العمومية بما يقرب من 60% من الناتج المحلي الإجمالي- ضعف حجم بنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي- يكتشف بنك اليابان أن حملته لإنهاء الانكماش غير فعّالة على نحو متزايد، فقد ارتدت اليابان إلى الركود، كما خفض بنك اليابان للتو هدف التضخم لهذا العام من 1.7% إلى 1%.

وأخيرا، كان التيسير الكمي مخيباً للآمال من حيث الاتساق الزمني، فقد عمل بنك الاحتياطي الفدرالي لفترة طويلة على تأهيل استراتيجيته للتطبيع في مرحلة ما بعد التيسير الكمي بالاستعانة بمجموعة من الظروف التي تعتمد على البيانات وتتعلق بحالة الاقتصاد أو مخاطر التضخم، وعلاوة على ذلك، فإنه الآن يعتمد على خواص غامضة لتقديم التوجيه للأسواق المالية، بعد أن تحول مؤخراً من التعهد بالحفاظ على انخفاض أسعار الفائدة لفترة "كبيرة" إلى التعهد بالتحلي بالصبر في تحديد متى يقرر رفع أسعار الفائدة.

ولكن البنك الوطني السويسري، الذي طبع النقود لمنع ارتفاع قيمة العملة بشكل مفرط بعد ربط عملته باليورو في عام 2011، هو الذي وجه الطعنة النجلاء إلى قلب التيسير الكمي، فمن خلال التخلي بشكل غير متوقع عن الربط باليورو في الخامس عشر من يناير- بعد شهر فقط من التأكيد على الالتزام به- أفسد البنك المركزي السويسري الذي كان منضبطاً ذات يوم متطلبات المصداقية بشأن الاتساق الزمني.

ولأن أصول البنك المركزي السويسري تبلغ ما يقرب من 90% من الناتج المحلي الإجمالي السويسري، فإن هذا الانقلاب يثير تساؤلات جدية حول حدود التيسير الكمي المفتوح وتداعياته، وهو يخدم كتذكرة مخيفة بالهشاشة الأساسية التي اتسمت بها وعود مثل وعد رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراجي بالقيام "بكل ما يلزم" لإنقاذ اليورو.

في عصر التيسير الكمي، فقدت السياسة النقدية أي مظهر من مظاهر الانضباط والتماسك، وبينما يحاول دراجي الوفاء بالتعهد الذي بذله قبل عامين ونصف العام، فإن حدود وعده- كمثل تأكيدات مماثلة من بنك الاحتياطي الفدرالي وبنك اليابان- قد تصبح واضحة وضوح الشمس، ومثل القوارض على حافة الهاوية، تبدو البنوك المركزية غارقة في إنكار المخاطر التي تواجهها.

* عضو هيئة التدريس في جامعة ييل، والرئيس السابق لبنك مورغان ستانلي في آسيا، وهو مؤلف كتاب «انعدام التوازن: أميركا والصين والاتكال المتبادل».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»