في 16 ديسمبر 1913، انطلقت رحلة غيرترود بيل من دمشق، ميممة حائل بقافلة مكونة من 17 بعيراً محملة بالمؤن والخيام، وثلاثة جمّالين، وطباخ، ومرشد، وقد تلقت تحذيرات عن المخاطر المحتملة، وبالرغم من أخذها الحيطة والحذر في ترحالها، فإن المخاطر واكبت رحلتها: حين هاجم قافلتها بعض الفرسان وسلبوا أسلحتها وذخيرتها عنوة، وانتظرت أسبوعاً حتى أعاد أحد شيوخهم ما سُلب، ثم اعترض طريقها مسؤول عثماني لمنعها من السفر؛ وبعد 10 أيام من المفاوضات المضنية، تمكنت من إقناعه بالسماح لها بالسفر. وعند مرورها بأراضي إحدى القبائل اعترض طريقها شيخ تلك القبيلة، ولم يسمح لها بالمرور، بحجة أنها "نصرانية"، واقترح سراً على رجال قافلتها قتلها وتقاسم حاجاتها، وفي حائل ظلت غيرترود بيل حبيسة في قصر برزان قرابة 11 يوماً، وقد سجلت معاناتها في يومياتها يوماً يوماً. وكانت، مع كل تلك المصاعب، مفعمة بالحيوية والحماسة، وقد شدها جمال الطبيعة في صحراء النفود، وكثيراً ما اعتقدت أنها دخلت إلى كوكب آخر، وأنها تعيش أجواء "ألف ليلة وليلة" الحقيقية.  

Ad

وتستعرض بيل في ما يلي يوميات الرحلة من 16 فبراير

إلى 25 فبراير 1914.

الاثنين 16 فبراير 1914

أعاني نوبة شديدة من الاكتئاب اليوم، وكيف أضع هذا الشعور بكلمات معبرة، وماذا يترتب على ذلك إذا ما صغت عبارتي يا ترى؟ هل أكون أفضل حالا أم سيزداد اكتئابي أكثر من أي وقت مضى؟ تساورني الشكوك العميقة بشأن ما إذا كانت مغامرتي بعد كل تلك المشاق تستحق كل هذا العناء.

لن آبه بالمخاطر التي تكتنف مغامرتي فأنا لا أمانع ذلك؛ ولكنني بدأت أتساءل ما الفائدة المرجوة من هذه المغامرة برمتها. إن البوصلة تشير إلى بلاد معروفة إلى حد ما، هناك عدد قليل من الأسماء التي يمكن أن تضاف إلى الخريطة؛ أسماء الجبال الصخرية والسهول الجرداء واثنين من الآبار الصحراوية العميقة (الطوال) التي استقينا من إحداها اليوم، وربما تكون هذه جميع الإضافات.

ولا أعرف ما هو العرض الذي سيقدمه آل رشيد لي عندما أصل، حتى لو كان مستوحى من أفضل إرادة في العالم، فتساورني الشكوك فيما إذا كان بمقدورهم أن يفعلوا أكثر من أن يسمحوا لي بحرية المرور إلى بغداد، لقد تضاءلت سلطة آل رشيد ونفوذهم في الوقت الحاضر، ولم تعد قوية كما كانت فيما مضى. والطريق إلى بغداد كانت مطروقة مرات عديدة من قبل، ولا أرى إن كانت الرحلة إلى نجد ذات قيمة حقيقية، أو أنها إضافة حقيقية للمعرفة، إنها لم تضف الشيء الكثير المميز. لقد توصلت وبوضوح إلى حقيقة مفادها أن كل ما يمكنني القيام به أن أختار بين طريقتين أثناء مهمتي هذه في الجزيرة العربية.

الأولى طريقة حياة الصحراء Arabia Deserta (كما عاشها داوتي): وهي الانغماس في حياة ناس الصحراء هنا والعيش مثلهم لشهور وسنوات، وبهذه الطريقة يمكنني أن أتعلم شيئا ما هنا، إلا أنه من الواضح لا يمكنني أن آخذ بهذه الطريقة؛ لأن هناك أمورا محظورة علي لكوني امرأة، (لا كما فعل داوتي).

 والطريقة الأخرى (كما عاشها ليتشمان Leachman)– أن تركب ظهر بعير أو تمتطي صهوة حصان وتتجول في البرية وبيدك بوصلة لترسم الخرائط فقط لا لشيء آخر غير ذلك، وهناك بعض الفائدة من ذلك أيضا وقد أكون قادرة على القيام به على مساحة محدودة بالزمن، ولكن لست متأكدة، على أي حال لا أقوم بذلك الآن.

 والنتيجة النهائية هي أنني أكون أكثر نفعا عندما أعمل بوظيفة في بلدان متحضرة (مدنية) حيث أعرف ما الذي أبحث عنه وكيف أدونه، ولو كان هناك أي شيء يستحق التدوين فلن تجده أو تصل إليه، والواقع أن المشاهدات على الطريق قد يعوقها أن تقابل قبيلة معادية تقطع طريقك، أو أن يكون الطريق خاليا من الماء، أو أي شيء من هذا القبيل، إنها لا تستحق كل هذا العناء والذكر، وما علق في ذاكرتي وصادفته على طريقي خلال الأيام العشرة الأخيرة لا يستحق الذكر كما أشرت: تحدثنا عن بئرين مررنا بهما، وفي الحقيقة لا أستطيع التفكير بأي شيء آخر. لذا هل يا ترى أن ذلك سبب اكتئابي، أخشى عندما أصل إلى النهاية أن أنظر إلى الوراء هل أقول، إن «ما قمت به كان مستحقا»، أم أنني من المرجح عندما أنظر إلى الوراء سأقول: «ما قمت به كان مضيعة للوقت؟!» ومع ذلك فمن المؤكد أن ما قمت به لا يمكن التراجع عنه الآن، لقد سبق السيف العذل.

 أعتقد أنني حمقاء عندما دخلت في معمعة هذا الضياع، عندما أقحمت نفسي بأمور أنا في غنى عنها، إذ لم يكن لي مطلق الحرية لممارسة أعمال هي من صميم اهتماماتي الخاصة، هذا أدى إلى تثبيط هممي؛ لأنها أتت بعد فوات الأوان، مثل معظم أفكارنا الحكيمة. هذه هي الأفكار التي تختلج مخيلتي هذه الليلة، ومع خشيتي من خطورتها إلا أنها تقترب من الحقيقة.

 أتمنى أن يحدث أمر ما: شيء مثير، غارة، أو معركة مثلا! شيء ليس من اختصاصي، ما دور اختصاصي بالآثار غير مبال للمعارك؟ كأن دوره ما هو إلا لتزجية الوقت ومنافعه ضئيلة، لا أشعر على الإطلاق أنني مثل ابنة الملوك، والتي من المفترض أن تقوم بهذا الدور هنا، إنه دور النساء المضجر في الجزيرة العربية.

الخميس 19 فبراير 1914

 بَطّل (تخلّى) لهيلم– الليلة الماضية-عن فكرة مرافقتنا خلال ترحالنا؛ ولكن تم إقناعه بأن ذلك يعد نقضاً لعهده وتخليا عن شرف كلمته فوافق على مرافقتنا، دفعت لعواد نصف مجيدي، ولغادي ريالا فرنسيا أبو شوشة لكونهما رافقانا أثناء عبورنا ديرة عنزة، لم يأت الشمامرة إلى مخيمنا لوداعنا، تركونا لحالنا وذهبوا إلى بيوتهم.

 كان الجو غائما باردا مع رياح شمالية غربية عاتية، ولم تنقشع الغيوم إلا في فترة ما بعد الظهر، وقررت أن أسلك الطريق من خلال الجلد وإن كان هناك بعض الخطر من هتيم، ولكنني لا أستطيع مكابدة مشاق طريق النفود، ونهاية النفود تسمى السطيحة، ومع ذلك فإن محمد المعراوي ولهيلم يأخذان على الدوام اتجاها آخر فأضطر إلى تنبيههما لتعديل وجهتهما وتصحيح المسار مرة أخرى.

 حاول لهيلم- من الساعة 10 فصاعدا- حثي على أن نحط رحالنا ونخيّم قائلا: إنه لا توجد مراع أمامنا، لا يوجد عرفج أو أي شيء آخر، وبينما كنت أسير مشيا على الأقدام للحصول على الدفء التقيت أحد الرعاة من شمر، وكان يلوح بيده اليمنى فاقتربت منه ولوحت له بيدي أقدم له التحية، وأمطرني بالأسئلة:

- إلى أين أنا ذاهبة؟

• قدّام.

- من هم الذين معي؟

• من شمر من السويد من السند.

- من أين ِأنا آتية؟

• من دمشق الشام يا ولد!

هذا وقد أخذت قياس الاتجاهات منذ الصباح وركزت على الرديفة، وشمال الضلعان في جبل المسمى التي مررنا بالقرب منها في الساعة 12.30 ومن هنا شاهدت نجد، يا له من منظر فظيع وموحش يوحي بالعدم، أنقاض من الحجر الرملي الأسود، وجروف جبل المسمى في الأفق الشرقي؛ نسير في البرية القفراء: ها هي الضلعان والغراميل منزرعة في أرض رملية عارية، والأرض المنبسطة تفصلها عن تلال الفردات المرتفعة في الجنوب، وخلفهما في الشمال سلسلة حبران المتقطعة... لا تزال الرياح تهب باردة شديدة، وعبر طريقنا لا تفارقنا المشاهد الرائعة للضلعان والغراميل.

الثلاثاء 24 فبراير 1914

في الساعة السادسة ركب محمد المعراوي وعلي راحلتيهما متجهين إلى حائل، وبعد 10 دقائق شرعنا بالرحيل، وهطلت أمطار غزيرة ليلة البارحة وكان صباحنا جميلا منعشا، وسرعان ما قادنا الطريق من خلال التلال إلى ضلعان غرانيتية من النهايد إلى طوال الصبروه وتل خلف والجاعد في الساعة 8.45.

أثناء عبورنا من خلال الضلعان اجتزنا مكانا قد حددت قياسه سابقا قد يكون أو لا يكون «مديرية» (أعتقد أن الاسم ليس دقيقا؟). توقفنا لملء القرب من الساعة 8.55 حتى 9.30 في غدير ماء خبراء كبيرة بين الصخور، شعور مفعم بالحيوية في هذه المنطقة الغرانيتية حيث اكتست الأرض بالشجيرات الخضراء والزهور الملونة الصغيرة. وانتشرت أشجار الطلح الكبيرة في كل مكان، وتفوح من السهل رائحة عطرة من البعيثران بأز هاره الصفراء.

مررنا بقصر ابن رشيد في الساعة 11.45 حيث اعتاد ابن رشيد أن يخرج لتفقد خيله هنا، ويقع القصر في بستان نخيل كبير، وفي الساعة 12.35 رأيت قرية لقيطة التي تبعد عنا نحو 3 كيلومترات، وفي الساعة 12.45 وصلنا عبر التلال إلى سميراء، وبيننا وبين حائل أرض منبسطة من الغرانيت والبازلت الحصوي، وفي الطرف الشمالي الشرقي يقبع جبل أجا الذي أصبح الآن إلى يميننا.

وأقمنا على مسافة 2 كيلو متر من حائل، حيث بمقدورنا أن نراها، لاتزال رحلتنا ممتعة للغاية، حدثني سعيد عن مجازفاته في عمليات التجارة منذ كان عمره 15 سنة والآن عمره 40 سنة، وكان يتقاسم مع من يشاركه التجارة، أيا كان، أرباح النصف مقابل «التعب» في الشراء، وإذا قبل في أرباح النصف فإنه أيضا يتحمل الخسارة الممكنة، وإذا كان يأخذ الثلث فقط فإنه لن يعاني أي خسارة.

إن تجارة الإبل والأغنام والسمن قد ارتفعت أسعارها على ما كانت عليه في نجد بسبب المنافسة القوية بين المشترين من العقيلات الذين يعملون فقط للتأجير، وإذا كانت السوق المصري جيدة يكسب التجار ما بين 200 جنيه إسترليني إلى 300 جنيه إسترليني من كل بيعة 1000.

والربح من رَعيّة (قطيع) الغنم والإبل هي ما بين 71 إلى 81 جنيها لكل 500 رعية أغنام، لكل رعية إبل تحتاج إلى اثنين من الرعاة من العرب، وهناك رعاة قطيع إبل من شمر كسبوا ما بين 20 و30 مجيديا من خلال سفرهم إلى دمشق الشام، لكن تجارة الأغنام يكتنفها الكثير من المتاعب والقلق فمخاطر تعرضها للفقدان أو الهلاك محتملة. في إحدى المرات بالقرب من الموصل خسر سعيد قطيعا كاملا من الأغنام، وقال: إنه على إثر هذه الحادثة «خارت قواه ولم يستطع السير»، ولكن بعد البحث لمدة يومين عثر على القطيع، وقال إنه لم يجلب في المرة الواحدة أكثر من 100 أو 150 من الإبل وذلك خشية إغراق السوق.

ولكن محمد البسام كان يجلب 150 رعية (قطيع) في وقت واحد، وكان المعراوي هو الأشهر والأكثر ثقة في هذه التجارة، وفي إحدى المرات اشترى 500 رأس غنم وباعها في سوق دمشق الشام لرجل لم يرها - مجرد ثقة به– قال له: «أعطني يدك فقط» وتمت الصفقة... بعد الاتفاق على السعر.

سئل مرة أحد الرولة: «عندما يأتي إلى قبرك الملكان ويسألانك عن أعمالك بماذا تجيب؟» قال: «سأقول أنا رْويلي ميّتْ، القَوْل والحَكِي عند ابن الشعلان، هو شيخنا، اذهبا واسألاه».

الأربعاء 25 فبراير 1914

شرعنا بالرحيل نحو الساعة 6.30 متجهين نحو حائل، وكان رجالي متلهفين للوصول إلى هناك، وبعد ثلاثة أرباع الساعة شاهدنا ثلاثة رجال قادمين كان أحدهم رفيقنا علي يمتطي بعيرا جاء مسرعا، وقال لنا: «كل شي على كيفنا» وأضاف قابلنا إبراهيم السبهان وكان كريما وأبدى ترحيبه بكِ.

وكان برفقة علي فارسان يمتطيان صهوتي حصانيهما، تقدما نحونا، أحدهما كان ممسكا برمحه، إنهما من عَبِيد ابن رشيد، واستقبلانا بكثير من الود ورحبا بي بشكل خاص، وفي وقت لاحق انضم إليهما فارس آخر هو حسن الضايفي، وأثناء مسيرنا أشاهد تلال السمراء النائية، وحين صعدنا احدى التلال رأينا حائل أمامنا، يحيط بها سور منخفض من الطين، ويبدو أنه شيد في الآونة الأخيرة، مع مجموعة أبراج مصقولة، أبراج شاهقة الارتفاع تظهر من بين بيوت البلدة.

أشجار النخيل الخضراء تعانق السور، وتمتد أرض منبسطة يغطيها حصى الغرانيت الأحمر، وفي جنوب المدينة أرض فضاء، التففنا حول السور ودلفنا إلى بوابة قفار أو المدينة، ويمتد أمام البوابة شارع واسع خال، وعلى الفور إلى اليسار وجدت محمد المعراوي واقفا ينتظرنا أمام باب المنزل. ترجلت من راحلتي وسرت في ممر طويل منحدر يؤدي إلى ساحة ثم إلى قاعة كبيرة مسقوفة، سقفها من سعف النخيل يقوم على جذوع نخيل بيضاء، والجدران مطلية باللون الأبيض وزُيّنت بأقوال وحكم كتبت بخطوط حمراء وزرقاء وفرشت الأرضية بالسجاد والوسائد، ورسمت الزخرفة التشجيرية على الجدران، وهناك نوافذ صغيرة جدا، في صفين الواحد فوق الآخر.

هنا جلست على الوسائد في الزاوية، هذا هو القصر الخارجي لمحمد بن رشيد، حيث اعتاد أن يأتي إليه لمشاهدة قوافل الحجاج التي تتجمع في الساحة المقابلة له، وقد استقبل هذا القصر شخصيات هامة زائرة، عندما ذهب الرجال لمعرفة المكان الذي سينصبون فيه خيامنا، صعدت فوق سلم خشبي إلى سطح القصر لمشاهدة مناظر حائل.

ناداني الصبي عطا الله (الرقيق-العبد) للنزول وجاءتني امرأة عجوز في الروشن (1) (صالة/ مجلس الضيوف)، مرتدية رداء قطنيا أحمر وفوقه عباءة سوداء وضعتها على رأسها، وتبعتها امرأة أخرى، ترتدي رداء قطنيا خفيفا لونه أحمر وأرجواني وفوقه الجلباب وتضع وشاحا مصريا ذهبيا مطرزا على رأسها، وسلاسل من اللؤلؤ الخالص مع حبات من الزمرد والياقوت يطوق رقبتها، وقلائد طويلة تمتد من الرقبة إلى الصدر، وسوار حول معصمي يديها وخواتم في أصابعها من الذهب الخالص الثقيل مرصع بها الألماس.

إنها تركية الشركسية، ربما نسبة لأصلها التركي، عاشت في إسطنبول في طفولتها، وتم إرسالها إلى الشريف وعاشت في مكة المكرمة لمدة سنتين، ولا تعرف لماذا تم إرسالها، ربما لتعلم اللغة العربية، وهكذا جاءت إلى هنا الى عبدالعزيز بن رشيد، وبعد مجيئها نسيت اللغة التركية.

وقالت لي تركية: إن إبراهيم أرسلها لترحب بي في حال لم أكن أعرف اللغة العربية، وقامت بتعريفي بأجزاء البيت، وكانت تجلس النساء في الصالة وفيها مكانان لعمل القهوة: داخلي وخارجي، وكانت الصالة تستخدم سابقا لاستقبال كبار الشيوخ العرب. وهناك جناح آخر ذو غرف صغيرة تستخدم لإقامة نساء محمد بن رشيد عندما يأتي إلى هنا، كل زوجة في غرفة خاصة بها، وبعدها ساحة مفتوحة أخرى صغيرة، وحوش يزرع فيه الليمون، والسفرجل، وتوجد أشجار التفاح، وللروشن الكبير شرفات، في إحداها يوجد تلسكوب، وفي الأخرى مصحف كبير قديم.

الممر مغطى من جانب ومفتوح من الجانب الآخر، والسقف من سعف النخيل محمول على أعمدة من جذوع النخيل، أخذت تركية تحدثني عن إسطنبول كثيراً وعن وسائل النقل مثل الترمفاي والعربات وعن المواد الغذائية، ثم قالت ومع ذلك هنا الحمد لله اللحوم والتمور جيدة ورخيصة! ما ينقص إسطنبول إلا تمور حائل! والسمن رخيص هنا، ترعرعت تركية بين العرب لذا تسلك سلوكهم، ترتدي ملابس مثلهم، وتمشي عارية القدمين مثلهم، وتسرح شعرها الطويل مثلهم حيث تترك فرقا في منتصفه، وقالت إنها تأكل لقيمات الأرز واللحم بكفها وبين أصابعها (أي لا تستخدم الملعقة والشوكة)، وتشرب اللبن! وترى تركية أن هذا وطنها وبيتها تود أن تموت هنا ولا تود أن تبارحه قيد أنملة، لا ترغب في العودة إلى إسطنبول على الإطلاق.

وفي وقت لاحق طلبت مني أن آخذها معي إلى إسطنبول وإنها ستقوم بتدبير أمورها هناك، أرسل السلطان العثماني عبدالحميد أربع شركسيات إلى محمد بن رشيد، اثنتان عادتا بعد وفاته، وواحدة إلى جانب تركية لاتزال تعيش هنا ومتزوجة شخصا يعيش في السماوة.

وحالما خلت الساحة من رجال حائل، جاء سالم وطلب مني ومن تركية ولولوة أن ننزل إلى أسفل لرؤية خيامي، وتبعنا كثير من الفتيات العبدات الجميلات، وعرضت تركية لهن كل الأغراض، الطاولة والكراسي وأواني الطبخ، وشرحت استخداماتها، مشيرة إلى كل إناء بإصبعها وطريقة استخدامه بدقة. لديها لسان معسول وإن كانت غير صادقة في بعض الأحايين. قالت:

«جئت هنا على طول الطريق من إسطنبول لإيجاد رجل»، وأضافت: «وأنتِ لا شيء لديك». وتقوم لولوة بوظيفة وكيلة للبيت بتصريف الأعمال- وهي وزوجها مقيمان هنا منذ زمن محمد بن رشيد، وقتل زوجها مع عبدالعزيز بن رشيد. وتقوم على خدمتها امرأة عبدة وابنها الصبي «عطا الله»، ويحرس الباب عبد اسمه «سعيد» اقتيد ككسب من قبيلة عتيبة، حيث جرت العادة عندما تقوم معارك قبلية يؤخذ العبيد كغنائم حرب مثل الأفراس والإبل، ويقوم العبيد ضعاف البنية في مهمة جمع الحطب وسحب الماء من البئر، أما الأقوياء فيسلحون ويقومون بمهام قتالية، وهناك أيضا فئة الخصيان الذين يجلبونهم من إسطنبول أو مكة المكرمة- الطواشي، وهناك أيضا مواطن من حائل، اسمه صالح، يعمل كرقيب على القصر، بعد تناول وجبة الغداء طلبتني تركية فذهبت وجلست معها، والحريم لا تذهب خارج القصر على الإطلاق.

قالت تركية: كنت هنا عندما قتل عبدالعزيز وتحدثت عن النحيب والعويل الذي أعقب ذلك، جاءتنا العبدة وجلست معنا. وقالت «أنا لم أصلِّ الظهر»، وقالت لها تركية: «يجب أن تذهبي وتصلي، يجب أن تذهبي وتصلي»، لقد انقضت أكثر من ساعة بعد الظهر، وبعد ذلك أعلن إبراهيم انه غير مسموح لي بالذهاب إليه بسبب التذمر من قبل علماء الدين. ذهبت إلى الروشن وجلست، وجاء عبد طويل القامة يسير أمام إبراهيم ووقف في الباب، ثم دخل إبراهيم وهو يرتدي على رأسه الكوفية (الشماغ) الأرجواني والأحمر وفوقه عقال مذهّب، ويلتف حول جسمه عباءة مطرزة بالذهب ويمتشق سيفا مطليا بالفضة. وتفوح منه رائحة عطر الورود الزكية، وجهه طويل ورقيق مع لحية ملكية ضئيلة؛ وأسنان تغيّر لونها، وعيناه سوداوان مكحولتان.

وتحدثنا عن الرحالة الذين زاروا حائل مثل: الليدي آن بلونت (2)، ويوليوس أوتينغ (3)، وتشارلز داوتي، ثم تناول حديثنا شؤون منطقة بريدة التي تخضع الآن لحكم ابن سعود؛ أما عنيزة فهي تحت حكم أميرها المستقل ولا تدفع الزكاة لابن رشيد، وقبيلة عتيبة قسم منها مع ابن رشيد، وقسم آخر مع ابن سعود، ولكن بعض أفرادها «قوماني» لكلا الطرفين على حد سواء.

جاءتني تركية ولولوة حينما كنت أحتسي أكوابا من الشاي، وتجاذبت معهما أطراف الحديث، وتركية تحب الثرثرة كثيرا، وتصف الأمير بـ«السلطان الله يسعدو». أرسل لنا كل من: علي وسعود، أبناء حمود وصالح بن سبهان، أربعة خراف نجدية سوداء وكيسا من الأرز، وعند الغسق عادت تركية برفقة عبدتها إلى القصر، وكانت الفتاة العبدة تجيب تركية على الدوام عند أي طلب منها بـِ»لبيكي». قالت تركية إنها لم تمشِ منذ سنوات وإنها تشعر بألم في ساقيها، وقالت إنها عندما تمشي وقت الغسق يحد من حركتها السياج الطويل والأسوار الطينية الواحد بعد الآخر وهناك أيضا آبار في الطريق يخشى الفرد أن يسقط فيها وإن كان بعضها «مدفونا».

الهوامش

 (1) جاء ذكر الروشن في شعر عبدالعزيز بن إبراهيم الحامد:

ياملّ قلبٍ من الهوى متعوب

لاهوب طربٍ ولا سالي

غاية هواه جادل الرعبوب

في وسط بيتٍ نايفٍ عالي

في روشنٍ مالسّه اللاهوب

وِمْنَادمٍ دلّه وفنجالي

ياليت خلّي ينجلب بالسوق

أشريه أنا في الحال بالمالي

(المترجم)

(2) الليدي آن بلونت (Lady Anne Blunt (1837 -1917 رحالة إنكليزية مهتمة بالخيول العربية الأصيلة، وقد أنشأت إسطبلاً في إنكلترا للخيول العربية، قامت عام 1878 برحلة - برفقة زوجها- إلى بادية الشام والعراق، واشترت خيولاً من القبائل البدوية هناك وتم إرسالها إلى إنكلترا، وألفت كتاباً عن هذه الرحلة بعنوان «قبائل الفرات البدوية Bedouin Tribes of the Euphrates» وقام الزوجان برحلة أخرى إلى حائل بنفس العام، ووثقت تلك الرحلة بكتاب عنوانه «رحلة إلى نجدA Pilgrimage to Nejd». (المترجم)

 (3) يوليوس أويتنغ (Julius Euting (1839 – 1913 مستشرق ومستكشف ألماني، كان مديراً في مكتبة جامعة ستراسبورغ، لعدة سنوات، ثم في مركز الأبحاث الشرقية. قام برحلة برفقة المستكشف شارل هوبر إلى الجزيرة العربية حيث اكتشف آلاف النقوش الآرامية والنبطية والسبئية وزار منطقة حائل عام 1883م. (المترجم)

من يوميات الرحالة البريطانية غيرترود بيل قبل قرن من الزمان (الحلقة 7)