منذ المقالة الأولى في هذه السلسلة من "رؤية سيريالية في القضية الفلسطينية"، تمنيت ومازلت أتمنى ألا أجد ما أكتبه تحت هذا العنوان، وأن أستيقظ على فعل كبير يجعل الحالة السيريالية واقعاً، بينما نرى الضغط والصراع والتسويف يزداد على جوهر القضية، بعد أن كانت على رأس الأولويات إلى وقت قريب.

Ad

المؤسف أن "القضية الفلسطينية" أجريت لها عمليات جراحية كثيرة وصلت بها إلى آخر "العلاج" ألا وهو في عرف العرب "الكَيّ"، والذي اكتوى به الشعب الفلسطيني الذي مزقته التفرقة وتباينت في ساحاته الرؤى، فضلَّ الطريق إلى الهدف، وضاعت الجهود والوقت في ترميم ما تحطم من الجسم الفلسطيني بين غايات ومآرب لا يمكن أن تكون في مصلحة القضية ولا في مصلحة شعبها المعني بالدرجة الأولى بكل ما مر فوق جسده المنهك، والذي حطمته الحروب والمناكفات الداخلية.

 المهرجون... كثرٌ، والمطبلون أكثرُ عدداً! فعلى مَن يُهرج المهرجون في موسم الغضب وأيام القحط وانعدام الرؤية؟!

ولمن يطبل المُطبلون والخيبة تحيط بهم من كل الجهات، والمتربصون لا يفرقون بين مهرجٍ ومُطبل، ويستبيحون حرمة القضية، ويحولون مسارها لتشمل المنطقة العربية والشرق الأوسط كله، ويخرجونها من ثوبها الفلسطيني، ويسكبون عليها سائلاً حارقاً هلامياً يتمدد ويتشكل في كل مرحلة يلبسونها ثوباً يليق بما يبغون.

الوضع السيريالي أصبح أكثر وضوحاً، ونحن نرى القضية بأسماء كثيرة توزعت صورها الجديدة بين الأمم، عربية وغربية وشرقية وجنوبية، ولم يبق في العالم بلد إلا وأصبح يدلو بدلوه فيها مثل قتيل تفرق دمه بين القبائل!

فكيف سيستقيم أمر القضية لتعود بثوبها الأصيل، ومن يحيك لها الأذرع والعيون ويرسم لها مساراً واقعياً لا يقبل السيرالية صفة لها؟!

واقع مشتت خارجياً وداخلياً!

خارجياً... تسلمت دفتها دول قوية لها سلطة جبارة وهيمنة على الكثير من مقومات الحياة التي لا يمكن الفكاك من حبالها التي نُسِجت بعناية و"تدبير" ملزم للقيادة الفلسطينية الشرعية المتمثلة في "السلطة الوطنية".

الذين يطالبونها بالكثير يتناسون أن حجم هذه السلطة صغير، وأن مقوماتها تكاد تكون "ميتة" إن قطع عنها الإمداد العالمي في كل ما تحتاج إليه، وهي مازالت تجاهد وتكابد نحو ما اتفق عليه في اتفاقية "أوسلو"، التي يرى الفلسطينيون أنها ماتت منذ زمن دون جدوى في الوصول إلى فتات، سترضى السلطة به مجبرة ورغم أنفها إن حصلت عليه ذات يوم لا يراه المراقبون قريباً، مادام التسويف العالمي ودولة الاحتلال قائمين بهذه القسوة والكيل بميزانين وبمعايير يمكن تبديلها حسب الحاجة في ظل حالة من "كسب الوقت" في التوسع وفرض واقع سيصعب التعامل معه، مما يترتب عليه تآكل القضية، وهذه القوى ضامنة أن "السلطة الفلسطينية" لا ظهير لها يساندها في ظل وضع عربي مشغول بأزماته الداخلية، والتي لا تحتاج منا هنا إلى أي تفاصيل باتت معروفة للجميع.

 أما داخلياً... ورغم يأس الشعب الفلسطيني من موقف وسلوكيات الفصيلين المتخاصمين (فتح وحماس)، وأسلوب كل منهما في تعامله مع الآخر، مع وجود مشاكل داخلية في صفوف كل منهما علنية وخفية، فإنه لا شيء أهم من إتمام التوافق بينهما والذي طال انتظاره، وهو يتعثر في كل مرة يتم الاتفاق فيها على وضع جديد، بل إن ما نتج عن هذه اللقاءات بين الفصيلين، وفي وجود ضمانات عربية وغربية خفية، نجده بدون مقدمات قد تحول إلى المزيد من "الردح الإعلامي المخزي".

 وهذا ليس "سيريالياً" بل هو "الوعي التام" من قبل الذي يؤدون أدواراً، ويتبارون في توجيه التهم من الطرفين كل إلى الآخر، كي يشكك الجماهير في سلوكيات "خصمه" إزاء القضية الجوهرية، والتي فروعها كثيرة داخلياً (رواتب الموظفين - الكهرباء- المعابر... إلخ ). فتكون النتيجة العودة إلى المربع الأول الذي تفقد فيه القضية زخماً بأمل في الحركة الدبلوماسية التي قامت بها "متأخرة" السلطة الوطنية بتقديم مشروعها إلى الأمم المتحدة والذي تم إعلان تفاصيله.

إن مطلب الشعب بالمصالحة إنما على أمل أن يقوى الموقف الفلسطيني حين يرى العالم أن الصوت يأتي من لسان واحد متفق على الاستماع إليه، وليس منقسماً بما يخلق ذريعة عدم التوافق الذي يزعج الدبلوماسية العالمية، التي لن تعرف من سيلتزم بما يمكن الوصول إليه من نتائج لو تحققت خطوات جديدة في مسار القضية.

 وعليه، سيبقى الوضع الفلسطيني "سيريالياً" إلى أن يستيقظ الفلسطينيون، وقد سقطوا في قاع الحفرة المغطاة بوهم الوعود المتكررة والتصريحات البراقة! أو بحدوث معجزة في زمن لا معجزات فيه.