الشّعر الأفرو-أميركي في «الموت في أرض حُرّة»... ملحمة متعدّدة الأصوات لألم واحد
تعلن المترجمة ريم غنايم في مقدمة جديدها، على مستوى الترجمة، «الموت في أرض حُرّة» أنّها في مختاراتها الأفرو-أميركية تحاول: «تحديد الملامح العامّة لهذا الشّعر، وهويّته ومدى تأثيره على الأدب الأميركي الرسمي عموماً».
إذا كان الأفارقة منصفين قانوناً في أميركا بموجب تعديل الدستور، إلاّ أنّهم استمرّوا يعانون الشعور بالدونيّة بعد عشرات السنين على تحريرهم. وقد يكون الشعر باباً للخروج من: «الصراع الأبديّ لأبناء الأقليّة، بشدّ القصيدة نحو جماليّات الكتابة الشعريّة والتحرّر عبرها من صراع لا ينتهي». وتظهر القصائد الأفرو-أميركيّة في «الموت في أرض حُرّة» واقع أصحابها الموشوم بكثير من القلق والتوتّر، أصحابها الذين لجأوا إلى الكتابة بـ»اللغة البيضاء» وكان طموحهم: «امتلاك مفاتيح هذه اللغة والبحث عن الذات والهويّة داخل أسر ذاك البياض وأقنعته المتعدّدة». ولم يتخلَّ هؤلاء الشعراء عن قضيّتهم المحقّة، قضيّة الزنوجيّة، فناضلوا حبراً وألماً وجمالاً، ابتداءً من الشعر الفولكلوري، وصولاً إلى القصيدة الأدبيّة بمعناها الناضج والمكتمل. وتجدر الإشارة إلى أنّ «هيوز» و»تومر» كتبا القصيدة باللغة العاميّة. وقد أفسح إلغاء نظام الرقّ الطريق لقصيدة الجاز وموسيقى البلوز... وتجسّد عصر النضج للقصيدة الأفرو-أميركية حديثاً باستطاعة الشعراء الشباب اكتشاف «القصيدة السوداء المفقودة».اجتاز عدد الشعراء، الذين اختارتهم ريم غنايم مادة لكتابها الثمانين شاعراً. فمن الصعب الإحاطة بهم كلّهم، لذلك لا بدّ من الاختيار في الإضاءة على الكتاب ولو كان مجحفاً ومسيئاً إلى كمال المشهد الشعري الذي حرصت المترجمة على رسمه للشعر الأفرو-أميركي.«الاقتتال البارز»تستهلّ غنايم عملها بقصيدة للشاعرة «لوسي تيري» تحت عنوان «الاقتتال البارز»، وهذه القصيدة حفظتها الصدور مدة قرن، لتطبع للمرة الأولى عام 1855، وهي تحاكي مجزرة ارتكبها هنود في حق عائلتين من البيض: «اليعازر هوكس» قُتل في المعركة/ ولمّا يمكّنه الموت من القتال/ ولمّا يرَ الهنود.../ «سايمون أمسدن» وجدوه ميتاً/ وقد طلعت قضبان من رأسه/... «جون سادلر» فرّ عبر الماء/ ونجا من الذبح العظيم»... أمّا الشاعر «جو بيتر هامون» فيرثي الأطفال قبل أن يبلغوا سنّ الموت، لأنّ في صدره نبوءة شعريّة تدله على أعمارهم القصيرة: «قد يفنى الأطفال./ ويتحوّلون إلى غبار وطنهم،/ ستقفز أرواحهم إلى ما وراء السماوات،/ وتحيا مع الأبرار».وتتواصل الحياة حاضرة بكلّ ما فيها من معاناة على شرفات القصائد، فيعرض الشاعر «بول لورنس دنبار» حياته بين رغيف وإغفاءة، ووقت يتقاسمه كثير من الكآبة وقليل من الفرح الذي يأتي مفرداً حين الأنّات أزواج: «قشرة رغيف وركن للنوم/ دقيقة للتبسّم وساعة للبكاء.../ بلا ضحكة وحدها الأنّات تأتي أزواجاً،/ وتلك هي الحياة». وتبدو الحاجة ملحّة لمديح الألم إلى حدّ يجعل الأنين رحماً يجود بالضحك: «بابتسامة تدفئنا ودموع تنعشنا/ ... والأنين أفضل رقائق الضّحك»... وأمام رهبة الموت يسوّق الشاعر «كلود ماكاي» فكرة الموت النبيل، الموت على مذبح قضيّة تعطي الدم ثمناً وتفرض على الوحوش الآدميّة احترام ضحاياها: «إذا كان الموت لزاماً علينا/ فلنمت بنبل/ ... عندها، حتى الوحوش التي نتحدّاها/ ستُجبر على احترامنا رغم الموت!»...ويتجلّى، من خلال قصائد كثيرة، أنّ الإيمان بعض من جمالية الشعر الأفرو-أميركي، فها هو «فرانك هورن» يفتح أبواب السماء بمفاتيح تتدلّى من خصور القصائد، ويقول إنه قدّم دمه هو أيضاً، إنّما لصنوبرة مزنّرة بالريح، حيث الظلّ يرتفع على برج من سواد: «في إحدى الليالي/ في الظلّ الأسود العالي/ لصنوبرة للريح/ قدّمت جسدي أضحية».نسمة هواءأمّا الشاعر آرنا يونتيمب» فيخاطب الله طالباً نسمة هواء للرجل الأصفر: «إلهي هب الرّجل الأصفر/ نسمة عليلة في موسم مزهر»، وراجياً الكراسي الدوّارة للرجال، ذوي العيون الزرق، الأغنياء، الذين يملكون الأرض برّاً وماءً وهواء: «هب الرجال الزرق العيون كراسيهم الدوّارة/ ليدوروا داخل بناياتهم الشاهقة،/ متّعهم بسفن وفيرة في البحر...» إنّما حين يصل إلى الرجل الأسود يرغب إلى الله ألاّ يزيد ذلك الرجل حزناً، وأن يستبدل بالدموع في كأسه رنين الضحك: «فلا حاجة يا الله بإزعاج الرجل الأسود أكثر/ فقط املأ من جديد كأس دموعه/ بنصيبه من الضحك». وكأنّ الشعراء الأفرو-أميركيين، حين يخاطبون السماء، يطالبون بحصّتهم من الفرح والسلام لأنّها لم تصلهم بعد، أما أكياس الدموع والدماء فقد غصّت بها دنياهم التي بكتهم طويلاً بعيون سوداء، ودموع سوداء...ومع الشاعر «جيمس أ. إيمانويل» (2013-1921)، يبقى الألم الأسود سيّد الموقف، إذ يعدّد الشاعر سواداً بعد سواد، من أوّل ظفر مشى عليه إلى الطريقة السوداء التي بها يُنزل الأبطال ترابهم عن ظهورهم: «أسود هو الظّفر الأوّل الذي مشيت عليه يوماً/ ... أسود هو الانتظار في العتمة/... أسود هو صدر «سوجورز» العاري/ ... سوداء هي الطريقة التي يموت فيها البطل». وبصراحة لا تعطّلها الجماليّة الشعريّة ولا يصادرها المجاز يتوجّه الشاعر «جون جوردان» (2002-1936) إلى الزنوج الأميركيين حاملاً حليب أطفالهم بيد القصيدة الموجوعة، راثياً إيّاهم في أرض الحرّية التي صلبتهم على سور العنصريّة، معلناً أن الله لا ينحاز ولا يتبنّى مواقف بشريّة: «يا من تبحثون عن الحليب/ وتصرخون بأعلى صوتكم في حضانة أرض الحرّية/... الله غامض ولا يأخذ جانب أحد»... ويكمل الشاعر «يوسف إيمان» الحكاية السوداء، فيسترجع مراكب العبيد المفروض على ركّابها حُبّ الأعداء: «أحضروكم هنا في مراكب العبيد وألقوا بكم جانباً/ أحبّوا عدوّكم»... ويرى أنّ محبّة الأعداء قد تكون قتلاً للآباء والأبناء: «أحبّوا أعداءكم/ أعدموا آباءكم/... أقتلوا أولادكم»... وذروة المأساة أن الأعداء المطلوب حبّهم، هم لا يقاتلون، ومن واجب الزنوج أن يقاتلوا عنهم: «أحبّوا عدوّكم/ حاربوا عنه حروبه»، فالعبد يموت فيكون موته حياة لسيّده، ذلك السيّد الذي يدمن كأس الانتصار بدماء الغير...«الموت في أرض حرّة» كتاب ألم طاعن في السّواد، وإنجاز صعب على إفادة كبيرة، لأنّ المترجمة ريما غنايم قدّمت للقارئ العربي ملحمة متعدّدة الأصوات، وهي على اختلاف أساليب شعرائها، تبدو وكأنّها في مكان معنويّ ما مكتوبة بقلم واحد، إذ إنّ مادّة هذه الملحمة تكاد تكون مشتركة عند الشعراء الأفرو- أميركيين كلّهم، وهي تختصر بالألم اليد السوداء التي لا تزال، حتى يومنا هذا، ورغم كلّ التقدّم على المستوى الانساني، تطرق بلجاجة أبواب الحرّية والمساواة وكرامة الإنسان.