«الديمقراطية العربية» شكلية وانتهازية
اليوم هو الموعد الذي حددته السلطات المصرية لفتح باب الترشح للانتخابات البرلمانية الأولى من نوعها بعد إطاحة حكم تنظيم "الإخوان" في 30 يونيو 2013، إثر تظاهرات شعبية حاشدة وغير مسبوقة.يعول المصريون كثيراً على البرلمان المنتظر، والذي سيمكنه أن يباشر أعماله في شهر مايو المقبل، بعد نحو سنتين من استحواذ رئيس الجمهورية على سلطة التشريع بشكل موقت في ظل غيبة المجلس النيابي.
يرى الكثير من المحللين أن ذلك البرلمان ستكون أمامه مهام خطيرة وعاجلة؛ أهمها التأكيد للعالم أن ما جرى في "30 يونيو" لم يكن "انقلاباً عسكرياً على سلطة منتخبة"، كما يروج البعض إنما كان تدخلاً من القوات المسلحة لحماية الإرادة الوطنية التي تجلت في التظاهرات غير المسبوقة.ومن تلك المهام أيضاً النظر في عشرات القوانين التي صدرت في ظل سلطة الرئيس الانتقالي عدلي منصور والرئيس السيسي ومناقشتها، وإقرارها وفق القواعد الدستورية، إضافة بالطبع إلى استكمال أركان "خريطة طريق المستقبل" التي أعلنها الرئيس السيسي بنفسه، في 3 يوليو 2013، حين كان وزيراً للدفاع، وهي الخريطة التي انطوت على ثلاث خطوات رئيسة؛ أولاها إقرار الدستور، وقد تم في يناير 2014، وثانيتها انتخاب الرئيس، وقد تحقق في مايو من العام نفسه، وثالثتها الانتخابات البرلمانية المنتظرة.ويبدو أن مصر ستكون قادرة بالفعل على إنجاز تلك الخطوة الأخيرة في "خريطة الطريق" رغم التحديات الإرهابية الجسيمة التي تواجهها الآن، وفي ظل الأزمة الاقتصادية المتفاقمة التي لم تفلح الجهود التحفيزية في حلحلتها بشكل واضح.ومع ذلك، ثمة شكوك تحيط بنجاعة تلك العملية، بعضها يتعلق بقانوني الانتخاب وتقسيم الدوائر، اللذين يتعرضان لبعض الانتقادات، وبعضها الآخر يتصل بالحديث عن "أجواء الإقصاء" التي يتعرض لها فصيل "الإخوان" عن الحياة السياسية راهناً، وتلك ملاحظة لا تأتي بالطبع سوى من هؤلاء الذين يرفضون اعتبار ذلك الفصيل "إرهابياً"، رغم الحوادث المتتابعة الأخيرة، التي تركت دلائل واضحة على منهجه العنفي والإرهابي.وبموازاة ذلك، يطرح البعض هواجس بشأن المشاركة الشبابية في ذلك التنافس الانتخابي، استناداً إلى ما يمكن رصده، تحديداً في وسائط التواصل الاجتماعي وبعض الصحف، من عزوف شبابي عن المشاركة، وتأكيدات من أطراف معارضة كثيرة بأن تلك الانتخابات "ستعيد إنتاج نظام مبارك".تنطلق الهواجس الخاصة بمشاركة الشباب ومخاوف إعادة بناء نظام مبارك من الأخبار والتقارير التي تؤكد أن رموزاً، وقيادات، وأعضاء فاعلين في "الحزب الوطني" المنحل، سوف يترشحون لتلك الانتخابات، ويبرر بعض المقاطعين عزوفهم عن المشاركة بأن رموز "الحزب الوطني" سوف تنجح في الانتخابات، التي لا يشككون في نزاهتها، "لأن الجمهور سوف ينتخبهم بكل تأكيد".يريد هؤلاء المشككون والمقاطعون القول إن الانتخابات الراهنة ليست سوى فرصة لهيمنة "الحزب الوطني" على البرلمان من جديد، لأن مرشحي هذا الحزب سيتم انتخابهم بكل تأكيد عندما يطرحون أنفهسم على الجمهور.يتشابه هذا المنطق مع ما تطرحه قصة تراثية شهيرة عن ثلاثة إخوة حملتهم الظروف على السفر وترك أختهم الشابة وحيدة، فما كان منهم إلا أن استقروا على أن يفوضوا "أعبد أهل زمانهم" و"أكثرهم تقوى وصلاحاً" لينهض بمسؤوليتها، ويرعى شؤونها في غيابهم. لقد قبل "العابد" المهمة بعد إلحاح، وبدأ بالنهوض بها على نحو جيد، حين كان يرسل الطعام إلى الأخت الوحيدة، ويتركه لها على باب منزلها.لكن الشيطان، وفق ما يخبرنا الخطباء والوعاظ، راح يلح على هذا "العابد"، ليتأكد أن الطعام يصلها، ثم يقنعه بأن يسألها عن أحوالها، ثم يحمله على تفقد خلوتها... وأخيراً الحديث إليها، والسمر معها، وصولاً إلى ما تعرفونه جميعاً، حيث "يقع عليها"، و"تحبل منه".منذ استمعت لتلك القصة المثيرة، لم أتوقف أبداً عن طرح سؤال بخصوص قيمة جوهرية غائبة باستمرار، تتعلق بتركيز القصة على "الإخوة الثلاثة" الذين خدعوا في "العابد"، وعلى "العابد" نفسه الذي فرط في الأمانة، وإهمالها لقيمة "العفة" أو "المنعة" لدى الأخت، التي لم تكن سوى مفعول به طوال الوقت بلا رأي أو موقف أو قدرة على مقاومة الغواية.إذا قمت بتحليل المواقف والآراء والمعلومات والتوقعات بخصوص الانتخابات المصرية المنتظرة، فستجد حديثاً لا ينقطع عن المخاوف من "عودة الفلول"، و"تسلل الإخوان"، وهيمنة "المال السياسي"، واختيار "نواب خدمات" أو "نواب المصالح"، وعودة "العصبيات والقوى التقليدية".ستقرأ تحليلات كثيرة كلها تبث مخاوف وتتوقع مخاطر؛ لكن معظمها للأسف لا يهتم سوى بـ"العابد"، أو "الإخوة الثلاثة"، أو "الشيطان"، أو "القيمة المهانة"، و"الإخفاق في الامتحان"، فلا أحد يتحدث عن "الأخت"... لا أحد يتحدث عن "الناخب".لا يثق معظم نقاد الانتخابات المصرية المنتظرة والمشككين فيها بقدرة الناخب على اختيار أفضل النواب، بل إنهم يزعمون أن هؤلاء الناخبين سيختارون فقط "الفاسدين والمستبدين"، دون أن يطعنوا في النزاهة الإجرائية للعملية الانتخابية... فلماذا يطالبون بالديمقراطية إذاً؟تغيب أي مقاربة مسؤولة، وأي محاولة جادة لتشخيص "الناخب"، والحديث عن "الظروف التي يتخذ فيها قراره"، و"تحليل مواقفه"، واستعداده الدائم لـ"التورط في الخطيئة"، كما غابت أي محاولة جادة لتحليل موقف "الأخت" في قصة "العابد"، والتعرف إلى الأسباب التي أدت بها إلى "الغواية".لقد فاتني أن أخبركم أن "الأخت" التي حملت من "العابد"، بعدما جارته مسلوبة في الخطيئة، ولدت سفاحاً، قبل أن يقتلها "العابد" مع وليدها، ويدفنهما في حفرة.ليس لدينا "ناخب" إذاً، ولكن لدينا "كائن مسلوب الإرادة، يقاد إلى الخطيئة منوماً بلا إرادة أو قيم، ثم يُضحى به لإخفاء الجريمة، ولا يأتي ذكره إلا لكي يعتبر قاتلوه".مشكلة الانتخابات في عالمنا العربي هي جزء من مشكلة الديمقراطية العربية، وهي ديمقراطية شكلية تركز على الإجراء ولا تهتم بالقيم، ومتسرعة... تريد أن تصل إلى النتائج الناضجة من دون معطيات كافية، وانتقائية... بحيث تكون نتائجها عادلة وناجعة إذا صبت في مصلحتنا، ومشوهة وممسوخة إذا كانت ضدنا.* كاتب مصري