ما قل ودل: الأحكام القضائية ومبدأ الفصل بين السلطات

نشر في 27-10-2014
آخر تحديث 27-10-2014 | 00:01
 المستشار شفيق إمام قضاة ينذرون وكيلي "العدل" و"المالية": حقوقنا أو عزلكما

تحت هذا العنوان نشرت صحيفة "الجريدة" على صفحتيها الأولى والثانية يوم الخميس الماضي أن عدداً من القضاة قدموا إنذارين رسميين إلى وكيلي وزارة العدل والمالية، مطالبين إياهما بضرورة تنفيذ الأحكام القاضية بمنحهم مكافأة نهاية الخدمة ومزايا صندوق الضمان الاجتماعي، وفقا لحكم صادر لمصلحتهم في يونيو الماضي، مهددين بأنهم "سيتجهون إلى تقديم بلاغات إلى النيابة العامة، لامتناعهما عن تنفيذ الأحكام الصادرة باسم صاحب السمو أمير البلاد"، وهو ما يطرح عدداً من القضايا.

أولاً: حق القاضي في حق التقاضي

إن حق التقاضي من الحقوق الدستورية التي كفلتها دساتير العالم لكل فرد، وكفلها كذلك دستور الكويت في المادة 166 للناس كافة، وهو حق مستمد من حرية الدفاع، التي هي أصل الحقوق والحريات جميعا، بل هي أقوى هذه الحريات، لأنه بغيرها لا تستطيع أن تمارس حقوقك وحرياتك الأخرى، فهي التي تخولك الذود عن أي عدوان عليها، فهو حق طبيعي لصيق بالإنسان، وقد شرع هذا الحق لتنظيم ممارسة الإنسان لحرياته وحقوقه حتى لا تصطدم بحريات وحقوق الآخرين، أو بالقيم الأخلاقية والاجتماعية التي تبنتها الجماعة، وتصل حرية الدفاع إلى أرقى مستوياتها الإنسانية حين تتجسد في حق التقاضي في ساحات المحاكم، حيث الحجة والجدل وصولا إلى حكم هو عنوان الحقيقة.

لذلك لا يجوز أن يحرم القضاة، وهم الملاذ الأمين للحقوق من حق التقاضي، إذا تعرضت حقوقهم للعدوان عليها.

ثانياً: احترام أحكام القضاء جوهر استقلاله

ومن المقرر أن من مقومات استغلال القضاء احترام أحكامه، لذلك تعتبر قاعدة "حجية الأمر المقضي" من القواعد المتعلقة بالنظام العام، وتعني هذه القاعدة أن ما قال به الحكم القضائي، وأيا كانت درجة المحكمة التي أصدرته، إذا صار باتاً، أي غير قابل للطعن فيه بأي وجه من الوجوه يصبح عنوانا للحقيقة، بمعنى أن ما قال به الحكم هو الحق بعينه وأن ما يناقضه بعيد عن الحقيقة.

وإذا كان من الممكن أن يأتي الحكم القضائي مجافيا للحقيقة لهذا السبب أو ذاك، فإن البشرية على الرغم من ذلك قد ارتضت قبول قاعدة حجية الحكم القضائي لأسباب أهمها الرغبة في وضع حد للخصومات، ولأن الحكم هو الأقرب إلى الحق وإلى الصواب في الأغلب الأعم من الحالات. (د. محمد ميرغني، القضاء وحجية الأحكام في مصر والعالم المتحضر، جريدة الوفد العدد الصادر في 23/7/1989).

ثالثا:  تجريم الامتناع عن تنفيذ الأحكام

ولهذا تحرص بعض الدساتير على تضمين نصوصها تجريم فعل الامتناع عن تنفذ أحكام القضاء، إذا وقع هذا الفعل من موظف عام استخداماً لسلطته، ومن هذه الدساتير دستور مصر سنة 1971، في المادة 72 وهي الجريمة التي نص عليها الدستور الحالي في مصر كذلك.

وقد قضت المحكمة الدستورية العليا في مصر، بـ"أن الدستور يعزز بنص المادة (72) مبدأ سيادة القانون بوصفها ضماناً جوهرياً لتنفيذ الأحكام القضائية من الموظفين المختصين، واعتبر امتناعهم عن إعمال مقتضاها، أو تعطيل تنفيذها جريمة معاقباً عليها قانوناً، وما ذلك إلا توكيد من الدستور لقوة الحقيقة الراجحة التي يقوم عليها الحكم القضائي وهي بعد حقيقة قانونية لا تجوز المماراة فيها". (جلسة 15/4/1995 ق 27 لسنة 16 ق).

ولهذا وكان أحد إنجازات مجلس الأمة خلال الفصل التشريعي السابع تجريم امتناع الموظفين العامين عن تنفيذ أحكام القضاء بالقانون رقم 9 لسنة 1996، وهو القانون الذي يعاقب كل موظف عام مختص امتنع عمدا عن تنفيذ حكم قضائي واجب النفاذ بالحبس لمدة لا تزيد على سنتين وبالعزل.

رابعاً: مبدأ الفصل بين السلطات

وقد جاء في المذكرة الإيضاحية لهذا القانون أن تجريم هذا الفعل قد دعا إليه ما ينطوي عليه من اعتداء على استقلال القضاء، بل على مبدأ الفصل بين السلطات.

ولكن ما يثار حول الحكم الذي طالب القضاة بتنفيذه في إنذارهم الموجه إلى وكيلي العدل والمالية، هو أن الحكم ذاته انطوى على عدوان على مبدأ الفصل بين السلطات، لأن القاضي- في ظل هذا المبدأ- يطبق القانون الذي تسنه السلطة التشريعية ولا يسن القانون الذي يطبقه.

وأن الحكم المذكور قد خلا من أي نص تشريعي حكمت على مقتضاه دائرة التمييز المختصة بالفصل في الطلبات التي يقدمها رجال القضاء والنيابة العامة، والتي أصدرت هذا الحكم، اكتفاءً بما أبداه المجلس الأعلى للقضاء من آراء واقتراحات وفقا لصلاحياته التي نصت عليها المادة (17) من قانون تنظيم القضاء رقم 23 لسنة 1990، التي خولته إبداء رأيه في المسائل المتعلقة بالقضاء والنيابة العامة، وله اقتراح ما يراه في شأنها من تلقاء نفسه أو بناء على طلب وزير العدل.

ذلك أن تنظيم هذه المسائل مجال محجوز للسلطة التشريعية، وفقا لأحكام المادة 163 من الدستور التي نصت على أن يبين القانون ضمانات القضاة والأحكام الخاصة بهم، وأن القانون وحده الذي يبين صلاحيات المجلس الأعلى للقضاء إعمالا للمادة (168) من الدستور.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.

back to top