حين يدخل عامٌ جديد عالمنا، إنما يدخل بصورة رقمية: 2015. تجريد محض، لا شأن له بالطبيعة من حولنا، أو بالكيان الحي فينا. وحدها الأيام، حين تتوالى عبر الظلام والضوء، عبر الحياة والموت، تمنح الكائن إحساساً بالزمن. الألعاب النارية التي ملأت سماء لندن، كانت تعبيراً متوتراً عن الرغبة في إيهام النفس. وما أن توقف ضجيج المفرقعات، وضجيج الحناجر، حتى رجعت النفس إلى كهفها حذرةً من التساؤل. الماضي وهم، يقول الفلاسفة، والمستقبل وهم. وحده الحاضر ينم عن حقيقته عبر الحركة. ولكن أي حركة تكمن في ثانية من الزمان، والحاضر لحظة من الزمان؟

Ad

فاعلية الذاكرة لدى الانسان تُفسد كل هذه المعادلات. حتى المخيلة ذاكرة، يعتقد جيمس جويس. فهي لا تخرج من خزين المستقبل، الذي لا وجود له، بل تخرج من خزين الماضي. يقول بعض النقاد إن مهمة الفن، والشعر ضمناً، هي ارتياد المستقبل. وهو مسعى باطل، كما أرى، لأن المستقبل تجريد رقمي كعام 2015. بل هي ارتياد الماضي الذي تخرج من خزينه، لأن الماضي بحرٌ محيط بلا ضفاف.

كان عام 2014 معتماً بالنسبة لنا، كما كان القرن العشرون معتماً بالنسبة للعالم أجمع. والعام الجديد صفحة بيضاء لم يُنقش عليها شيء بعد، شأن القرن الجديد. القرن السابق أنجز حروباً عالمية كبرى، وسفك دم الملايين. والقرن الجديد ينجز حروباً صغرى، لا تعجز عن سفك دم الملايين. والتقدم المادي في العلم مذهلٌ في القرنين، ولكن بالرغم من أن هذا العلم هو وليد العقل الانساني، فإن هذا العقل عاجز عن أن يطال هذا التقدم المادي بالتقدم المعنوي. إنسان يعجز عن التعبير عن افتتانه بجمال الوردة التعجيزي، فيقضمها بين أسنانه، ويبتلعها. ورد هذا في خاطري، وأنا أفتح مرتاباً صفحة «الفيسبوك»: طوفان كاسر من الاحتقان، والضغينة، والكراهية، والبحث عن أعداء. المثير للذعر أن الأصوات التي تريد أن تكون آملة، ومبشرة، ومحبة، ومتفانية تبدو إرادتها هذه متطرفة بصورة تذكر مباشرة بالتطرف الذي أثار ذعري في الأصوات المحتقنة، والمضطغنة، والكارهة. التطرف هو السمة المشتركة إذن. والتطرف معيار قيمة في تشخيص الشر.

في كل حب تكمن كراهية ممكنة.

في كل نفس يقيم نور الله ونار الشيطان.

والانسانُ مسرحُ دراما لا تُطفأ أنوارُه. وهذه الدراما، التي هي قدرُه، هي محكُّ قيمتِه أيضاً. لقد سعى الانسان، منذ فجر العقل، إلى أن يعرفَ، ولكنه لم يسعَ إلى أنْ يزنَ معرفته بميزان النفع والضُر، والخير والشر. العاطفةُ الحارقة عمياء، لها أنْ تبتكرَ قصيدةً، ولها أن تبتكرَ سكيناً. وهي ساحرة في كليهما. والشاعر الشاعرُ من يقدر أن يزنَ عاطفته بميزان النفع والضُر، والخير والشر. وزِنةُ القصيدة يتكفّل بها القارئ القارئ. ولذا فعاطفةُ الشاعر الذي يزِنُ بميزان النفع والضر، والخير والشر، عاطفةٌ ذاتُ بصيرةٍ، دائمةِ التحديق، ولا أجفان لها.

كم قصيدة صفق لها الناس، جاءتهم غفلةً وحزّت رقابهم. لأن الكراهيةَ، والضغينة كامنتان في العاطفة الحارقة، كمونهما في الحب. والعاطفةُ التي تفتقد البصيرة ملاذٌ آمن للكراهية والضغينة. وفي الشعر العربي، والعراقي بخاصة، وفرةٌ وافرة من القصائد التي صفّق لها الناسُ، ويصفقون، وسيصفقون طويلاً، حتى تهترئ الأكف. ولا أحد يُقارب هذا الحماس بحزّ الرقاب! القصيدةُ ذات البصيرة لا تقرب الناس عنْ تعالٍ، بل عن حذر، تجاورهم طمعاً في تأملهم، ولا تجاريهم. حين تنتابها الضغينةُ تُطفأ، وأسماكُها لا تجاري التيار:

نُشارةٌ رتل تساؤلاتي

تلفظها أسنانُ مِنْشارٍ على وقعِ ثوانٍ طوالْ.

نُشارةٌ كل مسرّاتي

وهي على مقعدها الأثير في الخمّارة الأثيرة

تنحتُ بالإزميل ليلَ السؤالْ:

من أنت؟

أنا الذي يعجِزُ عن إبطالْ

عُبوةٍ ناسفةٍ تحت الخُطى الغافلة،

يعجِزُ عن إمالةِ الرصاصة القاتلة

عن سيرها في لحظةِ الاغتيالْ.