كلمات ما قبل الإعدام

نشر في 07-11-2014 | 00:01
آخر تحديث 07-11-2014 | 00:01
No Image Caption
يتحقّق الإعدام بإزهاق الروح، ليصبح المحكوم عليه عدماً، لا وجود له. يُسلب حقّه في الحياة، إذ يُستأصل من المجتمع وكأنه مرض خبيث. ويخرج الإعدام من عدميته عندما يطاول شخصيات معروفة في السياسة والثقافة، أو مثلاً امرأة هي ريحانة جباري التي شكَّلت بتهمتها والقصاص من روحها حالة لم يكتمل مشهدها إلا بـ{رسالة ما قبل الإعدام}.

في رسالتها الأخيرة قبل إعدامها، قالت مهندسة الديكور الإيرانية ريحانة جباري، البالغة من العمر 26 عاماً، كلمات أبكت قلب والدتها شعلة باكرفان. كتبت: {شعلة قلبي الحنونة، في الآخرة، سنوجّه نحن الاتهام وسيكونون هم المتهمين، دعينا ننتظر إرادة الله، أردت أن أضمك حتى أموت، أحبك}.

جاءت رسالة ريحانة مؤثرة، لا ريب، إذ حملت أبعاداً في التراجيديا والرومانسية والإنسانية. هي امرأة قيل إنها قتلت ضابطاً استخباراتياً إيرانياً حاول اغتصابها، وواجهت القضاء بالكلمات. وعدا عن أنها فتاة جميلة، يزيد حُسنُ كلامها من لحظة إعدامها اللافتة: {عزيزتي شعلة، لا تبكي على ما تسمعينه الآن. في اليوم الأول الذي أذاني فيه وكيل الشرطة لأجل أظفاري فهمت أن الجمال ليس أمراً مرغوباً في هذا العصر. لا جمال المنظر، ولا جمال الأفكار والرغبات، الكتابة اليدوية الجميلة، جمال العيون والرؤية، ولا حتى جمال صوتٍ جميل}. أجدر بالإشارة من هذا وذاك، أن حضور ريحانة يتضاعف في إعدامها لأنها ضمن نظام الملالي، صاحب الباع الطويلة في سلوكياته المشينة في حق النساء والمعارضين.

سترافق قضية ريحانة ذاكرتنا لسنوات، فهي أولاً تعبِّر عن واقع القضاء الملتبس، وثانياً يقول موتُها إن حكم الإعدام جريمةٌ ثانيةٌ. والأمر الثالث، والأكثر تعبيراً، هو شعور المحكوم في لحظة إعدامه، فلعلها ستكون مفتاحاً لكتابة نص روائي، أو قصيدة.

وصايا

ليست ريحانة أول محكوم بالإعدام يترك رسالةً مؤثرةً قبل لحظة موته. يزخر التاريخ بأمثالها وبأشخاص أكثر حضوراً منها، ولحظات ما قبل الإعدام والوصايا التي يتركها الأشخاص الذين ينتظرون حبل المشنقة، طالما كان لها تأثيرها السياسي والاجتماعي والثقافي، والأمر لا يتعلق بمضمون الوصية بل برمزية صاحبها ودوره وموقعه وحضوره وأهميته، سواء أكان شاعراً مثل غارسيا لوركا أو متصوفاً مثل الحلاج أو فيلسوفاً مثل سقراط أو ثائراً مثل الأرجنتيني تشي غيفارا أو مجاهداً مثل الليبي عمر المختار أو رهينة مثل الأميركي جيمس فولي، أو طاغية مثل صدام حسين.

تذهب وصايا كثيرين أدراج الرياح، فيما تتحوَّل كلمات البعض أشبه بعبارات مقدسة. ويكون مشهد الإعدام تاراتٍ أقوى من أي كلمة، فيضجُّ الناس بالحديث عن طريقة الموت، لا عن الوصية. من منا لا يتذكّر سقراط؟ لم يترك الفيلسوف كتباً تحمل آراءه غير كتابات نقلها منه إلينا تلميذه أفلاطون. لم يكن لسقراط من عمل سوى التجوّل في شوارع أثينا مغرياً الناس بالجدل والمناقشة، دافعاً إياهم إلى البحث عن معرفة وفضيلة. وكي ينهض بتلك الرسالة كان لا بد من التشكيك في أفكار كثيرة، ما أثار سخط عدد من الناس عليه فاتهموه بالمروق الدينى وإفساد الشباب.

صدر الحكمُ على سقراط بالإعدام. وفي ذات ليلة، تسلَّل إليه تلميذه الشاب كريتون، وهمس في أذنه: {أعددنا كل شيء للهرب فهيا بنا يا أستاذي إلى الحرية}. نظر إليه سقراط، ثم قال: {كلا يا كريتون لن أهرب من الموت، إني لا أستطيع أن أتخلى عن المبادئ التي ناديت بها عمري كله، بل إنني يا كريتون أرى هذه المبادئ الغالية التي ناديت بها حتى اليوم جديرة بذلك الثمن. أجل يا كريتون ليست الحياة نفسها شيئاً، ولكن أن نحيا حياة الخير والحق والعدل فذلك هو كل شيء}. لم ينتبه قراء كثيرون إلى كلمات سقراط قبل موته بما تحمله من {فلسفة}، فهو اختار أن يعدم نفسه بتجرّع السم على أن يهرب، ليستمر هذا {الإعدام} مثالياً إلى اليوم، صانعاً مادة لكتّاب المسرح والدراما. وتراه لا يختلف عن مقتل الحسين بن الحلاج الذي كان يناجي ربَّه في لحظة صلبه، طالباً الغفران لِقَتَلته، ليواصل هذا الـ{صلب} أيضاً تأسيس مادة ثمينة لشعراء ومسرحيين في حديثهم عن حرية الرأي.

الروائي الروسي

تتسع المساحات الدرامية القاسية في إعدام سقراط، فهو اختار طريقة إعدامه بنفسه. تجرَّع السُّمَّ، وصار رمزاً لا ينتهي الكلام عنه. وربما لا يقل عنه رمزيةً الروائي الروسي دوستويفسكي. كان ضمن ستة حُكم عليهم بالرمي بالرصاص. أُعدم ثلاثة منهم قبله، فيما أنقذه عفو ملكي قبل دقيقة، على التقريب، من تنفيذ الحكم. كانت هذه اللحظة في حياة الروائي الروسي صاخبةً بكلمات لافتة وشكَّلت دافعاً له إلى كتابات وجودية ونفسية جديدة. وصف دوستويفسكي لحظة الموت في رسالة إلى شقيقه ميخائيل، فيها: {نقلونا إلى الساحة العامة، وهنا قرأوا علينا حكم الاعدام... ألبسونا الأكفان يا أخي وصفونا ثلاثةً ثلاثة على الجدار تمهيداً لرمينا بالرصاص. كان ترتيبي السادس، وكنتُ أنتمي إلى الوجبة الثانية التي سينفذ فيها حكم الإعدام. ولم تبق إلا دقيقة واحدة كي أعيش. في تلك اللحظة، فكرت فيك يا أخي، في اللحظة القصوى التي لا تتجاوز الثواني كنت أنت وحدك في خيالي. ولكن في آخر ثانية قبيل التنفيذ دقت الطبول وأعلنوا العفو الملكي الذي وهبنا الحياة من جديد! هل تستطيع أن تتصور تلك اللحظة من يستطيع أن يتصورها؟ ولكن على الرغم من كل ما حصل لي فلم أفقد الشجاعة ولا الأمل. الحياة في كل مكان هي الحياة. الحياة موجودة في داخلنا وليس في العالم الخارجي}.

لا شك في أن معظم حياة الروائي الروسي كان صاخباً بأجواء نفسية قاسية وصراع لا تنفصل عنه أعماله. ولكن لحظة الإعدام كان لها بعد مختلف ومغاير وصادم. لا ريب، يكلّف الإعدام {الميت} قبل خروج روحه من الجسد آلاماً جمة. لكن هذا الاعتقاد البديهي لا نجده عند شخصية {الأمير ميشكين}، بطل رواية دوستوفسكي {الأبله}، حيث يطرح الروائي مفهوماً مغايراً لطريقة الموت، والعذاب الذي يشمل الجسد قبل لحظة الوفاة. بعد أن يصِف {الأمير ميشكين} لأحد الخدم إحدى حالات الإعدام بالمقصلة التي رآها في فرنسا، يعبّر الخادم عن الرأي السائد عن أن الموت السريع بالمقصلة هو {طريقة الموت الفضلى}، فيجيب {الأمير الأبله} بقوله: {الآلام والجروح والوجع الجسمي، تُشغل النفس عن عذابها وتنسيها ما قد تكابده من هول، فلا يتألم المرء عندئذ إلا من الجروح إلى أن يموت منها. لكن الألم الرئيس، الألم الذي هو أشد الآلام قوة، هو الألم الذي ينشأ عن يقين المرء من أنه بعد ساعة ثم بعد عشر دقائق ثم بعد دقيقة ثم الآن فوراً ستترك روحه جسدها، وأنه لن يكون بعد تلك اللحظة إنساناً}.

غيفارا

في مقابل بُعدَي لحظة إعدام ديستويفسكي وسقراط الوجودي والرمزي، ثمة ما يمكن وصفه بالـ{كليشيه} في إعدام الثوري تشي غيفارا والقائد العربي عمر المختار. كان بعض اليساريين في العالم، وما زال، مصاباً بهوس القداسة وأقوال الشهداء. في كل مناسبة {ثورية}، يروح كثيرون ينشرون وصية الثائر غيفارا قبل إعدامه لتكون عبرة للآخرين، كما يأملون. تقول كلمات ما قبل الإعدام إن ضابط  الـ{سي أي أيه}، سأل غيفارا: {إلى متى ستبقى تقاتل بعدما كنت في فنزويلا والمكسيك وأنغولا والجزائر وكوبا... إلى متى؟}.

أجاب غيفارا: {إلى أن يتمكن أطفال العالم كلهم من أن يشربوا كوباً من الحليب كل صباح}. ويضع غلاة اليسار هذه الكلمات في مرتبة المقدس من ضمن إحاطة غيفارا بالهالة الثورية، وبأنه سيد العدالة الإنسانية والشهيد في سبيلها. هي عدالة، حتى لحظة الإعدام لم تثنه عن إنشادها!

ويورد بعض المسلمين العرب ما قاله القائد الليبي عمر المختار قبل إعدامه. سأله القاضي: {هل تدرك أنك ستعدم؟}.

عمر المختار: {نعم}.

فيقول له القاضي في المحكمة: {أنا حزين بأن تكون هذه نهايتك}.

فيردُّ المختار: {بل هذه أفضل طريقة أختم بها حياتي}.

يحاول القاضي أن يغريه فيحكم عليه بالعفو العام في مقابل أن يكتب للمجاهدين التوقف عن جهاد الإيطاليين، فينظر إليه عمر ويقول كلمته الشهيرة: {السبابة التي تشهد في كل صلاة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله لا يمكن أن تكتب كلمة باطل}.

تُوظَّف أقوال القادة في لحظة ما قبل الإعدام لغايات سياسية وأيديولوجية غالباً، أهداف قائمة على تفعيل الثورة والجهاد، وهي تخلو من أبعاد الوجود للذات، ربما لأن هؤلاء القادة يتفانون لأجل الجماعة.

مئات النماذج حول العالم كان لها وقعٌ في {لحظة} ما قبل الإعدام، كتبت الرسائلَ، سواء  وهي على أعواد المشانق أو في خندق المعركة. ربما أفضل ما تقوله هذه الرسائل إنها تبقى عبرةً للذاكرة، نقرأُ بعضَها بهدوء ونَظر، ويخرجُ بعضَها عن مساره فيتحوّل شعارَ غايات سياسية وأيديولوجية، كما في حالة إعدام لوركا وغيفارا.

back to top