يبدو أن الاقتراب من التاريخ ما زال يمثِّل إشكالية صعبة بالنسبة إلى المشتغلين بصناعة السينما والتلفزيون في مصر وغيرها من الدول العربية. فالضجة التي اندلعت في مصر عقب إنتاج مسلسل «صديق العمر»، الذي يحكي قصة الصداقة والشقاق بين الزعيم الراحل جمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر، واتهام العمل بالتجني على التاريخ، وتكرار الاتهام مع مسلسل «سرايا عابدين»، ومن قبل فيلم «امرأة هزت عرش مصر» بطولة نادية الجندي، وغيرها من أعمال تناولت وقائع تاريخية، تكاد تتكرر بالضبط مع فيلم جميل عُرض في الدورة الثالثة لمهرجان الأقصر للسينما المصرية والأوروبية (24 – 31 يناير 2015)، وما كدت انتهي من مشاهدته، والاستمتاع برؤيته السياسية، ومعالجته السينمائية، حتى علمت أنه واحد من الأفلام المغضوب عليها، وأن تهمة الخيانة تطاول مخرجه والمشاركين فيه تماماً مثلما طاولت، يوماً، المخرج عاطف الطيب والنجم نور الشريف، وكل من تورط في صنع فيلم «ناجي العلي»!

Ad

الفيلم الجديد يحمل اسم «الوهراني» (الجزائر/ فرنسا 2014) من تأليف وإخراج وبطولة إلياس سالم، الذي ولد في الجزائر في العام 1973، وحصل على شهادة في الأدب الحديث من جامعة السوربون، وقيل إنه حصل على الجنسية الفرنسية، ورصد في فيلمه قصّة الأصدقاء «جعفر» الملقب بالوهراني (إلياس سالم)  و{حميد» (خالد بن عيسى)، كذلك «سعيد» و{زياد»، ونضالهم ضد المستعمر الفرنسي. بل إنه أوحى في الفيلم بأن «الوهراني» أصبح بطلاً بالمصادفة بعدما تورط في قتل جندي فرنسي وهو يدافع عن «حميد»!

المفارقة أن المخرج الذي كان بمثابة فخر للجزائر والجزائريين، بعدما رشح فيلمه الروائي الطويل الأول «مسخرة» لأوسكار أفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية، ممثلاً للجزائر في مسابقة العام 2008، تحوَّل، بين ليلة وضحاها، إلى «متطاول»، بعد اتهامه بالإساءة إلى الإسلام، و{شيطنة» المجاهدين وأبطال ثورة التحرير!

أزمة فيلم «الوهراني»، في رأيي، أنه التزم بالوقائع، من دون الالتجاء إلى التزييف أو المبالغة والتهويل، ولأنه خاطب ببراعة المشاعر الإنسانية؛ فأبطال ثورة تحرير الجزائر، في الفيلم، بشر من لحم ودم، حملوا أرواحهم على أكفهم يوم أن كان الوطن في حاجة إليهم، ولم يفرطوا في وسيلة تعينهم على مواجهة المستعمر الفرنسي من دون أن يستخدموها إلى أن نجحوا في طرده، وبعد الاستقلال، في زمن ما بعد الحرب، عاشوا حياتهم، وأصابتهم الهموم (اكتشف أحدهم، البطل جعفر، أنه مطالب برعاية «بشير» الطفل اللقيط الذي أنجبته زوجته من جندي فرنسي اغتصبها في غيابه)، وهي إشارة ذات مغزى إلى الحرمات التي انتهكت على يد المستعمر، وحجم التضحيات التي بُذلت من نساء الجزائر قبل رجالها، وفي سياق النظرة الواقعية نفسها رصد المخرج والكاتب إلياس سالم التحولات التي طرأت على «الثوار» فأحتل بعضهم مناصب قيادية في الدولة، واهتم بتأمين مصالحه الخاصة، بينما سعى البعض الآخر إلى تعويض ما فاته والفوز بنصيب في الغنيمة، وفي واحد من أجرأ مشاهد الفيلم اختار «جعفر» مقر القائد الفرنسي ليصبح منزلاً له!     

قدم «الوهراني» صنوف البشر بتناقضاتهم كلها، ولم يصور أبطاله- المجاهدين في مسوح «الملائكة» المنزهين عن الخطأ، كما اعتادت الدراما التاريخية أو أعمال السير الذاتية تصويرهم، وكان حاسماً عندما قال إن الحرب لم تنته، وأن الجيل الجديد مُطالب بانتزاع الحرية، وإن اختلف مغتصبها، ولهذا السبب كان موجعاً، وهو يصرخ: «كل شيء ليس على ما يرام»، ومن ثم بدا وكأنه نكأ الجرح، الذي أراد له البعض أن يندمل، وفضح الانتهازيين والمتحالفين والمتنازلين والخونة (في الفيلم مشهد لأحد المجاهدين يصفي أحد رفاق السلاح لأن ضميره لم يمت)!

 فعل المخرج إلياس سالم ذلك من دون أن يفرط في لغته السينمائية، بل استثمر عناصره الفنية، كالصورة (بيير كوتيرو) والمونتاج (فلورانس ريكارد) والموسيقى (ماتياس دوبلسيه) والتمثيل (خالد بن عيسى، أمل كاتب ياسين وبوكيفا عبد الله) والأغنية (أمل كاتب ياسين) ليقدم فيلماً جميلاً يجمع بين النظرة الواقعية التحليلية والسخرية اللاذعة (مشهد المطالبة بالحديث باللغة العربية الفصحى)، فضلاً عن الشجن الإنساني الذي ملأ الأرجاء، والمؤامرات التي تُدبر في الخفاء للتخلص من المعارضين، وروح التسامح التي انتهت بها الأحداث، مع إدراك «بشير» بأنه لقيط، ومُطالبة «الوهراني» له بألا يتوقف عن زيارته، وأن يستمر في قراءة الفاتحة على قبر أمه.

فيلم «الوهراني» في حاجة إلى هذه الروح المتسامحة لقراءته، والاستمتاع برسالته، من دون الانسياق وراء الانفعالات العصبية، والاتهامات المجانية، من نوعية أن الفيلم يسيء إلى قدسية الثورة الجزائرية، ويمثل إهانة للمجاهدين، وهي الاتهامات نفسها التي تطاول كل من تسول له نفسه الاقتراب من «التابوهات» وتحطيمها!