«ما قيمة الفن والثقافة في وقت بات فيه التعتيم على الدم المسفوح في سورية أمراً مفروغاً منه؟»، يتساءل زهر عمرين ومالو هالاسا في تقديمهما كتاب «سوريا تتحدث- الثقافة والفن من أجل الحرية» Syria Speaks: Art and Culture from the Frontline. ثم تأتي إجابتهما تقليدية متسرعة: {الإبداع ليس الطريقة الوحيدة للاستمرار في الحياة في ظل العنف فحسب، إنما هو أيضاً طريقة فاعلة لتحدي العنف ذاته}.  

Ad

صدرت ترجمة الكتاب إلى العربية عن دار {الساقي} أخيراً، فيه يشارك أكثر من 54 فناناً وكاتباً من أطياف متنوعة، وتولى الإعداد كل من زاهر عمرين ومالو هَلسا ونوّارة محفوض.

يبدو كتاب «سوريا تتحدث- الثقافة والفن من أجل الحرية» الذي يجمع ثلة من كتاب وشعراء وفنانين سوريين صورةً «نوستالجية» إلى زمن الثورة الأول، يوم انطلقت الأخيرة بشغب شعبي ورومانسية وأحلام كبيرة، رافقتها رايات حرية سلمية، قبل أن تطحنها عسكرة النظام ووحشيته، ناهيك بالتدخل الخارجي والتردد الأميركي. وقبل أن يأتي «داعش» ليكمل بـ{كاميرا الذبح» على ما تبقى من الثورة.

ترافقت صورة الثورة السورية المثالية مع ظهور أسماء فنية عدة، أعمال بصرية وغرافيتي لا بأس بها، بعضهم استفاد من الموجة وبعضهم كانت أعماله استئنافاً لتجاربه السابقة، فلم «يستغل» صيحة ولا وحماسة لتحولات في سورية. حتى في الكتابات، ثمة استئناف للغة المعارضة السورية التي كانت سائدة قبل الثورة، إلى جانب نصوص حيوية كتبها بعض الأقلام من الميدان.

الكتاب ثقافي عن ثورة في الأساس كان أهل الثقافة هامشيين فيها، لا دور لهم ولا أحد يسمعهم، وبعضهم كان متماهياً مع النظام، وانزلق بعضهم الآخر إلى التطييف. أسماء سورية معروفة غابت عن الكتاب، وأسماء جديدة وجدناها فيه، وأسماء نمطية حضرت وتحضر في كل نشاط حتى استهلكت بسبب تكرار أفكارها.

سوريا ما بعد داعش غادرها الكاتب المناضل ياسين الحاج صالح (له حديث في الكتاب عن المثقف والثورة)، وهو كان بقي معتقلاً نحو 17 عاماً، وخرج ليصبح أحد أشهر الكتاب السوريين. تجربته في سورية تبين ما آلت إليه الثورة، فهو كان يصرّ على البقاء في بلده برغم الموت المتواصل، لكنه غادره مضطراً إلى تركيا أمام اشتعال الأحداث بقوة.

الكتاب استعادة لواقع الموت السوري في جزئه الأول، يومها كان لا يزال للموت وقعه ومعانيه. كانت الثورة. كان لحمزة الخطيب صرخته من خلال موته. لكن هذا الواقع سرعان ما انهار أمام الموت بالبراميل المتفجرة والمجازر. وانطحنت المعاني في سورية لمصلحة التوحش من الأطراف كافة.

شجاعة لا سلاح

«سوريا تتحدث- الثقافة والفن من أجل الحرية» وإن ابتعد عن راهِن المعركة في سورية، عن قصد أو عن غير قصد، جاء مادة «فنية» جمعت نصوصاً متنوعة، مؤكدةً أن النظام ليس «السوبر أسد»، وأن الثورة في سورية كانت رد فعل حتمياً لفعل استبداد مستمر في البلد.

يبدأ الكتاب بالمجزرة الأم، حماة (1982) التي قرأنا عنها وبقيت صورتها في مخيلتنا سوداء بدمويتها، فهي لم توثّق بسبب غياب وسائل التواصل آنذاك. والملاحظ أن الحديث عنها رافق الأحداث الراهنة في سورية منذ بدايتها، إذ تذكَّر الجميع حماة على أنها إحدى مجازر الأسد الأب، التي بقيت بعيدة عن الإعلام والعالم.

وحماة كانت نموذجاً اقتضى به الأسد الابن، وإذ عاثت المجازر في مدن سورية كافة وأريافها أخفق النظام اليوم في التعتيم على مجازره، ربما لأن موقف العالم من النظام جاء مختلفاً هذه المرة.

تكتب سمر يزبك مذكراتها حول الثورة، نذهب معها إلى شمال سورية حيث الثوار يتحدون النظام. وتتحدث سلافة حجازي عن خطورة تصاميمها الآتية من قلب دمشق. المخرج أسامة محمد يقدم سيناريو شعرياً حول «سعاد حسني» بنسخة سورية منخرطة في الهتاف للنظام منذ سنوات عمرها الأولى، حتى تشاهد تلفزيونياً مقتل صديقتها في تظاهرة معارضة.

من رواية خالد خليفة يحضر في الكتاب مقطع بعنوان «حقول الخس» حيث نقرأ ذكريات كثيرة آتية من سورية تفيض مخاوفاً من حزب البعث. ويرسم الباحث حسان عباس خطوط معركة اليوم (الأمس) في دراسة عنونها «بين ثقافة المواطنة والثقافة الطائفية»، وتبدو ملصقات «الشعب السوري عارف طريقه» السياسية لافتة، وهي تُعتبر بحسب الباحثة شارلوت بانك استمرارية لتاريخ الملصقات الفني. ويعرض زاهر عمرين في مقالته «الرمز والرموز المضادة» معاني كامنة وراء رموز القوة وأدوات بروباغندا النظام والثورة.

ولعل أبرز التجارب البصرية الحيوية، وفي الكتاب صفحات غير كافية عنها، كانت لافتات بلدة كفرنبل الساخرة التي واكبت المستجدات السياسية والأفكار، وسخرت من المعارضة والنظام وأميركا في آن. كان مرحها اللفظي ظاهرة خاصة، وجاء وقع كلماتها قوياً وبقي راسخاً.

«الوحدة تدلل ضحاياها» لدارا عبدالله، «غيم أسود في سماء بيضاء داكنة أو الموت بطعنات الأسى» لعلي سفر، «أدب الانتفاضة السورية» لروبن ياسين قصاب، «هل أتاك حديث الصور... حديث القتل في سورية؟» لفاديا لاذقاني، رسمان كريكاتوريان لعلي فرزات، «تشريقة، صلاة من أجل حمص» لفرج بيرقدار، «أفهم شخص في الفيسبوك» لعبود سعيد... وغيرها نصوص قلم وريشة ولون كثيرة يضمها الكتاب، وهي في معظمها مؤثرة وملهمة، تنمّ عن إبداع وشجاعة.

شجاعة نعم، لا سلاح. يقدِّم الكتاب نفسه كسلاح «فني» يتحدى آلة الحرب القاتلة. هل فعلاً أوقفت العنفَ كلمات رنانة، موزونة، منتفضة، صارخة؟ هل عزلت الأطفالَ عن الموت رسومات على جدران بلد يتهاوى؟ في الواقع، السلاح يُواجهه السلاح، فقط لا غير. والكيماوي لا يردعه قلم، إلا في حال واحدة، أن يخطَّ حبر الأخير ورقةَ «التخلّص» من «بشار الكيماوي». والحال، أن الأحداث الدموية في سورية تُركت بلا حلّ، إلى أن انهدم الهيكل على رؤوس الجميع، ونبت الوحش الداعشي بقوة، مؤكداً أن القتل لا يعوزه بنادق متطورة وطائرات وصورايخ وبراميل متفجرة. تكفيه مُدْيَة.

جاء «داعش» متسلحاً بجبروت النحر، بالسكاكين فحسب. ووصلت رسائله إلى الدول، فتحرَّك المجتمع الدولي، لا لأجل سورية، بل خوفاً على أمنه ومصالحه.

 

«أرجوحة» ليس عنوان الكتاب، ولكن لعله خير تعبير عن حالة بلد، ترجَّحت به أراجيح كثيرة، فراح معلقاً في الهواء يجيء ويذهب. من على أرجوحتها تنظر فتاة غلاف «سوريا تتحدث» إليك (لمجموعة «الشعب السوري عارف طريقه»). تشوب أرجوحتها إبر كثيرة، فيما شعرها ينشد حرية... إنها حال سورية.