حجم التردد العراقي وغياب الوضوح في ما يتصل بخطة استرداد الأمن وتخطي الانهيار العسكري، يتكشف عبر حوار قصير يشيع هذه الأيام على المحطات المحلية، فالعرب المقربون إلى رئيس الوزراء حيدر العبادي يسألون الأكراد: كيف يقرر إقليم كردستان إرسال قوات من البيشمركة الكردية للقتال في كوباني السورية ضد «داعش»، من دون تنسيق مع بغداد؟ فيجيب الأكراد: وكيف استعنتم أنتم طوال شهور بجنرال الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني للقتال شمال بغداد وجنوبها، من دون أخذ رأي شركائكم في ائتلاف الحكومة، من الكرد والسنة؟

Ad

السجال الشائك هذا يعكس قصور الدستور والتشريعات النافذة والتسويات، عن التعامل مع مشهد عراقي يتطور بسرعة، وتنهار فيه الحدود مع إيران وتركيا وسورية، فيهرع شيعة طهران لمساندة شيعة بغداد، ويهب أكراد تركيا لحماية أربيل، ثم يذهب كل الأكراد للدفاع عن كوباني شمال سورية، بينما تتحرك طائرات حربية من كل العالم، لقصف مدن وبلدات عراقية يحتلها «داعش»، من دون تنسيق كاف كما تقول بغداد.

ومع صعود وزير داخلية من منظمة بدر، وفق تسويات شيعية- شيعية، اضطرت أحزاب كثيرة إلى القول إنها ستقبل بوجود ميليشيا منضبطة يقودها تيار مقتدى الصدر وحتى هادي العامري زعيم منظمة بدر، وقصارى ما هنالك أنها تطلب معالجة وضع الفصائل الصغيرة الأكثر فتكاً، والتي لا زعيم يعرف لها، ولا تلتزم بقواعد اللعب.

وهكذا باتت أقصى الأحلام تتعلق بضبط هيكلية المسلحين وتحويلهم إلى حالة شبه قانونية داخل الدولة، وفق قواعد لعبة معرفة بشكل واضح، لتخفيف سيناريوهات القتل والانهيار داخل المدن المختلطة.

ومن الواضح أن هذا السيناريو سيحتم على العراقيين التعايش مع فكرة ظهور ثلاث دويلات داخل الدولة «الفدرالية بنكهة الاتحاد الكونفدرالي» لكل من المكونات الثلاثة الرئيسية، رغم أن عدد الدويلات الممكنة حالياً هو أكثر من هذا، فللأكراد دولتان حتى لو تظاهروا بوحدتهم، واحدة لحزب رئيس الإقليم مسعود البرزاني في أربيل ودهوك، وأخرى للرئيس العراقي السابق جلال الطالباني في السليمانية، ولاحقاً في كركوك التي صارت تحت نفوذه وخرجت منذ يونيو عن سيطرة بغداد.

وإذا كانت «دويلات الأكراد» الأكثر انضباطاً وتنظيماً وخبرة، لأنها تعمل منذ انتفاضة 1991، فإن الشيعة لايزالون حائرين بين التصرف كـ»ملوك للعراق»، أو التصرف كأحزاب صغيرة وكثيرة تتنازع على النفوذ. أما السنة فإنهم لا يمتلكون حتى الآن مرجعية سياسية متماسكة، ومازالوا يغرقون في صراعات بين المحافظات الثلاث الرئيسية، أي نينوى وتكريت والأنبار، بينما يضيع سنة بغداد في هذه المعمعة بين خطوط التماس الإداري والطائفي. ويكافح رجال قانون وضباط كبار لصياغة قانون ما بات يعرف بـ»الحرس الوطني»، لاستيعاب مقاتلي الفصائل السنية وحشدهم ضد داعش، غير أن التشريع سيضطر كذلك إلى استيعاب الميليشيات الشيعية التي لن تقبل بحل نفسها، وتريد امتيازات داخل هذه المؤسسة العسكرية التي ستصبح رديفاً للجيش، أو جيشاً للمحافظات «مقابل جيش بغداد». ويعرب كثير من الساسة عن خشيتهم من أن تكون هناك «ميليشيا قانونية» لكل محافظة ومدينة، وأن يحتاج ضبطها ومنع وقوع الصراع بينها إلى جهد كبير لا تملك الدولة وقتاً له وهي تخوض حرب «داعش». بينما يقول آخرون إنه لا حل إلا باستيعاب كل هؤلاء، وضبط إيقاعهم عبر قانون موحد وربطهم بالحكومات المحلية للمحافظات، لأن الاستعانة بهم ضرورية لدحر «داعش»، وللحفاظ على استقرار نسبي في ما بعد.

وإذ يبدو ذلك ضمانة سياسية وحيدة يجب أن يحصل عليها سنة العراق خصوصا، فإنه حسب المعنيين، تجربة محاطة بالحذر وتتطلب عدداً من القيادات الحكيمة التي تمنع انزلاق الصراع داخل «نادي الميليشيات الكبير»، في وقت تفتقد معظم القيادات السياسية إلى الحكمة والتدبير اللازمين، للتعامل مع الواقع القانوني المتلكئ والتطورات العسكرية المتسارعة، وهو ما يرشح العراق ثانية للوقوع تحت وصاية أو رعاية دولية تساعده في استيعاب هذه التناقضات، وتجنبه الوقوع في تفكك دموي يمكن أن يتحول إلى عاصفة تأتي على ما تبقى من قواعد الاستقرار في عموم المنطقة.