في مقال لي على هذه الصفحة منذ أكثر من عامين لم أتردد في أن أناشد الحكومة سرعةَ استصدار مرسوم تعيين ثلاثة من المستشارين كان المجلس الأعلى للقضاء وافق على اختيارهم للمحكمة الدستورية من بين مستشاري محكمة الاستئناف ومحكمة التمييز، وكانت المحكمة قد فقدت نصاب انعقادها، بعد تقاعد بعض مستشاريها، وفي تأخير صدور المرسوم تعطيل لأعمالها، وكانت قد مضت بضعة أشهر على موافقة المجلس المذكورة.

Ad

إلا أنني لا أتفق مع حملة ظالمة من الصحافة منذ أيام على وزير العدل السيد/ يعقوب الصانع، لما نسبته إليه من أنه لم يصدر قراراً بتعيين 49 من الباحثين القانونيين، كان المجلس الأعلى للقضاء قد وافق على اختيارهم لهذه الوظيفة، تمهيداً لتدريبهم وتأهيلهم لتعيينهم بعد عام في وظائف وكلاء النيابة، بزعم أن الوزير لا يملك سوى التصديق على هذا القرار، وأن أي تدخل للوزير في هذا الاختيار يعتبر ماساً باستقلال القضاء.

وهو ما يقتضي وضع النقاط على الحروف في هذه المسألة التي تتصل بتكوين القاضي، والذي يقوم على ركيزة أولية هي حسن اختياره، منذ بدء تدرجه في السلم القضائي لخطورة الرسالة التي يقوم بها القضاة، وثقل الأمانة التي يحملونها، فالقضاة هم ورثة الأنبياء والرسل، ويدخل في اختيار القاضي قدرته على تحمل أعباء هذه الأمانة، ليس من الناحية العلمية فحسب، بل كذلك من الناحيتين النفسية والأخلاقية، والقدرة على التحكم في العواطف ومقاومة الأهواء والإغراءات.

والنيابة العامة في أصل نشأتها نظام فرنسي، أخذت به كثير من الدول، ومنها الكويت التي أخذ دستورها بنظام النيابة العامة، حيث تنص المادة 167 على أن تتولى النيابة العامة الدعوى العمومية باسم المجتمع، وتسهر على تطبيق القوانين الجزائية، وملاحقة المذنبين وتنفيذ الأحكام.

وفي فرنسا يتم تعيين أعضاء النيابة العامة بقرار من رئيس الجمهورية بناء على اقتراح وزير العدل باستثناء أعضاء النيابة لدى محكمة المخالفات، الذين يتم تعيينهم بواسطة المدعي العام، دون أي تدخل من جانب المجلس الأعلى للقضاء في جميع الأحوال.

ويتولى رئيس الولايات المتحدة الأميركية تعيين قضاة المحاكم الاتحادية بعد موافقة مجلس الشيوخ. ولا يتم الترشيح لهذه الوظائف إلا بعد التحري عن المرشحين لها من جهات عديدة، لعل أهمها مكتب المخابرات الاتحادي الملحق بوزير العدل.

ووفقاً للقوانين التي أصدرها الرئيس جيمي كارتر لإصلاح حال القضاء، تقوم لجنة مشكّلة من مجلس الشيوخ ومساعدي الرئيس ونقابة المحامين بالتحقق من صلاحية المرشحين للوظائف القضائية، ورفع قائمة بأسماء المرشحين، ليعين الرئيس من بينهم من يشاء.

وفي المملكة المتحدة، يتم اختيار القضاة بواسطة السلطة التنفيذية، وإن كان قاضي القضاة Lord Chancellor هو الذي يقوم بتعيين قضاة المحاكم العليا والمحاكم الدورية ومحاكم الأقاليم الجنائية وقضاة الصلح، إلا أن تعيين كل من رئيس محكمة الاستئناف ولوردات الاستئناف المعاونين ورئيس دائرة مجلس الملكة الخاص يتم بناء على قرار من مجلس الوزراء.

وفي بلجيكا، يقوم رئيس الدولة باختيار قضاة محكمة النقض ومحاكم الاستئناف ورؤساء وكلاء المحاكم الابتدائية، من قائمتين تعد الهيئة القضائية إحداهما، وتعد الهيئات المنتخبة القائمة الأخرى، وهي مجلس الأعيان ومجالس المديريات، بينما يختار رئيس الدولة باقي القضاة، بعد قضاء مدة تدريب معينة.

ويعتبر القاضي في الإسلام نائباً عن ولي الأمر، يعينه الأخير، وقد بعث سيدنا علي، رضي الله عنه، إلى الأشتر النخعي، وكان قد ولاه على مصر يفوضه في اختيار القاضي الذي تتوفر فيه الصفات التي حددها له.

وقد عهد الدستور الكويتي في المادة (74) إلى الأمير بتعيين الموظفين المدنيين والعسكريين كافة، وهو ما رددته المادة (61) من قانون تنظيم القضاء، التي نصت على أن يكون التعيين في وظائف النيابة العامة بمرسوم بناء على عرض وزير العدل بعد موافقة المجلس الأعلى للقضاء، عدا التعيين في درجة وكيل نيابة حرف (ج)، فيكون التعيين فيها بقرار من وزير العدل بعد أخذ رأي النائب العام وموافقة المجلس الأعلى للقضاء.

ولا جدال في أن استخدام الوزير لسلطته التقديرية في التعيين في وظيفة باحث قانوني، التي ستؤهل صاحبها للتعيين بعد عام في درجة وكيل نيابة حرف ج، يقتضى منح الوزير الوقت الكافي لكي يستخدم هذه السلطة بأناة وروية وتبصُّر، عندما تجتمع لدى الوزير كل العناصر التي تتيح له حسن الاختيار. ولا ينال من سلطته التقديرية أن يكون قانون تنظيم القضاء قد فرض عليه قيدين، أولهما أخذ رأي النائب العام، وثانيهما موافقة المجلس الأعلى للقضاء، ذلك أن هذين القيدين هما ضمانة أساسية وجوهرية، لكي يستخدم الوزير سلطته التقديرية في اختيار أفضل العناصر لتولي هذه الوظيفة من ناحية الكفاءة والصلاحية، وهو ما أشار إليه رئيس محكمة نقض أسبق في مصر المستشار ممتاز نصار في كتابه "معركة العدالة"، حيث رأى ألا يكون الأساس للترشيح في وظائف النيابة العامة مقصوراً على ترتيب النجاح وحده، بل يتعين ألا يتم ذلك إلا بعد تحريات دقيقة عن النشأة والسلوك الاجتماعي، وهي التحريات التي لا يملك إجراءها إلا أجهزة السلطة التنفيذية؛ فلا يعتبر استخدام الوزير لسلطته في التعيين في هذا الوظيفة ماساً باستقلال القضاء.

 وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.