حين نسترجع الزمن
أن تختار السفر إلى بلد ما فقط لأن هناك رحلة طيران مباشرة له دون أن تهتم بمعرفته ولا بماذا ستجد فيه، وما هي مميزاته التي تستحق السفر من أجلها، هو بحد ذاته مغامرة مجهولة التوقعات، وهو ما حصل لي حين قررت السفر إلى قبرص دون معرفة أي معلومة عنها، ولم يكن لدي لا في الزمن السابق ولا اللاحق أي نية لزيارتها، فهي في أفضل أحوالها لن تلحق بتركيا أو اليونان، وقد زرتهما مرات عديدة واكتفيت بهما، وهو ما أبعد قبرص عن دائرة زياراتي، لكن حين فتشت عن بلد في أوروبا أستطيع السفر إليه في الشتاء بطيران مباشر دون النزول في مطارات متعددة، لم أجد إلا أقربها إلى الكويت قبرص، لذا تم اختيارها كمحطة للالتقاء مع ابنتي في إجازة قصيرة.وأجمل ما في الأمر هو أن تعيش وتتمتع بإجازة رائعة قلبت كل معايير التوقعات التي لم يُخطط لها، فهذه أول مرة أسافر فيها إلى بلد لا أعرف عنه أي شيء، عدا اسمه وجبن الحلوم القبرصي الذي ينتجه، وإذ بي أكتشف دولة انتصرت على لهاث هذا العصر وعرقلت هرولة عقارب ساعاته وأبطأت "رتم" ونظام سرعته لتناسب طريقة وأسلوب معيشتها التي تحبها وترضيها وتضبط تكيفها معها، وهو الأمر المفتقد بالنسبة لي، وكل من يريد الهروب من ملاحقة الوقت وسوط الزمن اللاهث سيجد ضالته في جنة جزيرة قبرص الهاربة من سعار التحدث والمدنية الزائفة.
بصراحة أقول "برافو" كبيرة للمسؤولين عنها الذين استطاعوا أن يضبطوا تخطيط الدولة واتساع نموها بشكل عقلاني متسق مع الطبيعة ومع راحة الإنسان فيها بدون حرمانها من كل مقومات العصر الحديث، فالزمن فيها يُشعرك بأنك مازلت في السبعينيات أو الثمانينيات من القرن الماضي بكل ما فيه من فلل أو عمارات صغيرة متباعدة في رفاهية الاتساع، وطرق شوارعها ممتدة ومتسعة من دون كركبة الجسور والتحويلات ومخانق الأنفاق ومصبات الدوائر، والسيارات القليلة تسير براحة وهدوء مما ينعكس على الناس بالسلام والسكينة والهدوء، ويجعلهم مبتسمين ومرتخين. وهذا ما نبهني وأشعرني بأسباب العنف والغضب في الشارع الكويتي الذي باتت حاله لا تُطاق بكل هذه المدنية المتسابقة في "عصرنة" البلاد بمجاميع الأبراج الضخمة الرابضة والمحتلة لروح المكان، وخنقه بالازدحامات السكانية والعمرانية المتراكبة بعضها فوق بعض، والتي احتاجت سيارات سكانها إلى المزيد والمزيد في التوسع بمشروعاتها العملاقة للجسور والأنفاق التي حولت الشوارع "السردينية" إلى اختناقات إرهابية عصبية أكلت وقت المواطنين، وجعلت زمن المعيشة والإنجاز لهاثاً في لهاث لا ينتهي وشد أعصاب لا يرتخي، وضيقاً في المساحات والخلق بسبب هذه الأعداد المتزايدة من العمالة الوافدة التي تعمر التسابق إلى "عصرنة" حرقت الزمن وقصرت عمره، وجعلت حياة المواطن في صراع مع الوقت وأعصابه في محرقة لهاثه.لهاث الجري خلف "العصرنة" المدمرة هذه لا يوجد في قبرص التي حافظت على نبض التوازن، بين تحديث المدينة وراحة الإنسان فيها، فلم تهرول خلف خلق أبراج و"كباري" وجسور ومولات وأسواق فوق حاجتها لمجرد الاستهلاك "المتعوي" وامتلاء جيوب الكبار، ومع هذا فقبرص من أفضل المدن في تمدنها، فكل مساكنها ومشاريعها تدار بالطاقة الشمسية حتى أكواخها، والإنترنت متوفر في كل مكان فيها، وهي تعتبر من أهم وأنظف المدن في الطاقة النظيفة البعيدة عن التلوث، ومازالت محافظة على بكارة طبيعتها، نتيجة الاستعمار الانكليزي لها لفترة زمنية طويلة، الذي تم الاستقلال عنه في 1960.الغريب أن قبرص أو "جزيرة الحب" كما تُسمى بسبب خلق أسطورة "أفروديت" فيها، تكونت من انفجار بركاني في قلب البحر المتوسط قبل 10 آلاف سنة، أي عمرها أكبر من عمر مصر ذات الـ7 آلاف سنة، ومع هذا فعدد سكانها أقل من مليون، ويأتيها في الصيف 2 مليون سائح، بينما عدد سكان مصر قد تجاوز الـ90 مليون نسمة، فمن يحل هذه الأحجية؟في قبرص، يعود بك الزمن إلى الوراء فتشعر بدقات قلبك قد هدأت وحبال العصر اللاهث قد ارتخت، ونبضات التوتر زالت، فتجلس ترتشف الوقت على مهل متلذذاً ومستوعباً كل تفاصيله وحركاته.