الأصداء الباردة

نشر في 19-01-2015
آخر تحديث 19-01-2015 | 00:01
 فوزية شويش السالم رواية «صلاة من أجل العائلة» للكاتبة اللبنانية رينيه الحايك، وهي آخر أعمالها، ورُشحت لجائزة البوكر العربية عن القائمة الطويلة، واستغربت وصولها إلى القائمة الطويلة، ولا يرجع الأمر لضعف في مضمونها أو تركيبها السردي أو لأي تقنية فنية أخرى، بل على العكس فهي رواية متقنة في بنيتها السردية وتكوينها الفني وقيمة مضمونها، لكنها تفتقر إلى الحيوية ونبض الحياة المتدفق حتى تشد القارئ إليها.

النص تنقصه الحرارة التي توصل بينه وبين قارئه، فمن أول صفحة إلى آخر صفحة لا يوجد ما يجذب أو يحرك أي شيء في روح وأحاسيس القارئ، عن نفسي هذه أول رواية أكملها بطلوع الروح من الملل، ورغم قصرها فقد أخذت مني أسبوعا حتى أنهيتها، ولو لم أكن من النوع الذي لا يترك الكتاب في منتصف دربه ما كنت أكملتها.

هذه الرواية أوصلتني إلى اكتشاف جديد في الكتابة، ألا وهو «الأصداء الباردة»، وأقصد به حين تُكتب الرواية عن سيرة لذاكرة قديمة طمسها النسيان، ويحاول الكاتب استحضارها من ماضيها، دون أن تكون لديه انفعالات قوية حية تجاهها، فهو يكتبها بحرفية الكاتب وقدرته الدربة على صياغتها روائيا، لكنه لا يستطيع بث روح الحرارة والحيوية بها، لأنها بالنسبة إليه ميتة غير صالحة لزمن بات بعيدا عن زمن حدوثها، وهو ما انطبق تماما على هذه الرواية، فالكاتبة تذهب إلي لبنان بعد موت أمها، وهناك تبدأ استحضار ذاكرة الأم منذ كانت صبية تخدم في البيوت إلى أن توفاها الله، وكيف أفنت حياتها في خدمة أولادها وزوجها المخطوف في الحرب اللبنانية، وما تركته من آثار نفسية واقتصادية ودمار للواقع المعيش كله، مع وصفها للأمكنة والتغيرات التي طرأت عليها بمرور الزمن وافتقادها ناسها، ومع تذكر حياة الأم تمزج الكاتبة بين ذكريات حياتها مع زوجها وولديها ومع أمها ومدينتها بيروت الأسيرة لذاكرتها فيها ولعلاقات الأسرة، وكيف تتغير وتتبدل وتتحول في القرب والبعد والهجر والنسيان، وتاريخها الذي يبدو أيضا شاحبا خاليا من الحيوية والحياة باردا وبعيدا، فهو ليس أكثر من أصداء لحوادث ميتة في البعد والهجر، ولا يوجد فيها ذرة حدث تشد القارئ، سرد هادئ بطيء كأنه الرجع أو الصدى لأصداء السيرة الممحية مشاعرها التي كانت متوقدة في البعد والنسيان.

هذا لا يعني أن أي أصداء تُكتب بها الرواية ستكون على هذه الشاكلة من الكتابة، بالطبع لأن أصداء الأحداث أحيانا حين تُستحضر من ماضيها الراكد، لتصحو ويتدفق فيها نبض الحياة والحيوية التي تستمدها من الانفعالات المتدفقة الحارة لكاتبها المبهور بها والمشتعل بحضورها، مما يجعله يُسبغ مشاعره وأحاسيسه عليها فيصبحان كتلة لهب مشتعلة معا، والرواية عبارة عن حدث غائب مطموس في ماضيه حتى يلتقطه كاتب ما لينفض غباره ويزيل عنه غفوة الصدأ وتراب السنين، ويدفع تيار خيال يولد حياة تشعله وتشتعل به، حتى وإن كانت ليست أكثر من خيال تفوق على واقع ربما لم يكن، وهو ما نقص هذه الرواية التي جاءت كتابتها بالأصداء البعيدة المنتهية صلاحية حيوية انفعالاتها، فجاءت مثل وجبة مكتملة العناصر لكنها باردة وبلا طعم.

الجزء الحي في الرواية هو علاقة البنت مع أمها، فقسوة البنت وتكبرها وشعورها بالخجل والإهانة من سلوك والدتها وطريقة تعاملها معها هو الذي شدني إليها، وطرد النعاس ونبهني لمعاودة القراءة، فهو موجع ويلقي الضوء على تصرفات كثير من الأبناء خاصة في مرحلة المراهقة والشعور بالتعالي فيها.

وهذا مقتطف يكشف طبيعة العلاقة بينهما: «تقف متأملة كل بناية عالية تقول: اقرئي، هذا هو الأوتيل يا ابنتي؟

صرت أنهرها، أخجل من وقوفها عند كل بناية وتحديقها باللافتات، أقول: كفي عن ذلك، لا داعي لتفضحينا، سأفعل بنفسي، لا تمدي إصبعك هكذا، لا تتكلمي بصوت عال... الناس يسمعوننا... ماذا سيقولون؟».

«أسبقها إلى الخارج، دموع تطفر من عيني رغما عني... أفكر أن لا شيء سينسيني هذه المهانة. تناولني كيس الثياب سعيدة لأحمله. أسبقها بسرعة كأنها فعلت بي أسوأ ما يمكن تخيله، حتى عندما تعثرت وهي تحاول اللحاق بي، لم التفت، تقول في ظهري: يا ابنتي، انتبهي من السيارات».

back to top