جامعةً بين حميمية المذكرات وبين ملحميّة الرواية في {بجعات برية}، كانت الروائيَّة يونغ تشانغ السبَّاقة، وربما الأشهر، في تناول أجيال النساء الصينيات في الزمن الماوي الشيوعي. أخبرتنا قصة نساء ثلاث: جدة الكاتبة، والكاتبة، وابنتها التي ترعرعت في منشوريا في ظل الاحتلالين الياباني والروسي. الحفيدة التي تسمّت باسم جدتها يونغ تشانغ، أمضت طفولتها في أوساط أصحاب الامتيازات والسلطة، لكن وحشيَّة {الثورة الثقافية} حملتها على التساؤل والشكّ حتى في زعيم الحزب الشيوعي الصيني ماوتسي تونغ نفسه.

Ad

لوحة بانورامية رسمتها يونغ تشانغ عن المجتمع الصيني بتجلياته وتفاصيله، تكشف فيها ألوان الثورة الصينيَّة المتناقضة والبائسة في خضَّم الأحلام الكبيرة والوردية. أما الكاتبة وي هيوي فكتبت سيرتها المعولمة في {شنغهاي بيبي}، عملٌ أثار حفيظةَ النظام الرسمي الصيني فحارب الروائية ووصمها بالكاتبة {المنحلّة، أَمَة الثقافة الغربيّة}. إذاك، تعرّضت الرواية للمنع والمصادرة من السلطات الصينيّة المعنيّة في عام 2000، وأُحرق منها وأُعدم علانيةً أربعون ألف نسخة. وسرعان ما جعلت الروائيَّة من عملها الأول مسوغاً لكتابة رواية عنونتها {الزواج من بوذا}، فجاءت مجرَّد تداعيات للرواية الأولى.

اللافت في {بجعات بريَّة} و{شنغهاي بيبي} أنهما اكتسحتا الأسواق، والأمر نفسه مع رواية {نادي البهجة والحظ} للصينيَّة المتأمركة آمي تان. تتناول الأخيرة العلاقة بين الأم وبين ابنتها في الصين، ناقلةً صورةً عن المجتمع الصيني الذكوري ومعاناة النساء الصينيات في ظله. {نادي البهجة والحظ} التي تهديها آمي تان إلى ذكرى أمها، هي رواية الأمهات بامتياز، ذلك أنها ما ضمَّت فصلاً إلا وكانت {الأم} فيه شخصية تتناسل منها الشخوص والأحداث كافة، فيهلّ الحضورُ النسوي جارفاً التفاصيل إليه.

قصص وأسرار

أن تقرأ {بجعات برية} يعني أن يقودك الفضول لاحقاً إلى مطالعة ما تستطيع من إنتاجات الأدب الصيني، حتى باتت ربما النص الشفيع لكل رواية صينيَّة مهما كانت استهلاكية كما {نساء من الصين: قصصٌ وأسرارٌ} المُترجمة إلى أكثر من ثلاثين لغة. كتاب المؤلفة الصينية شينران الصادر بالعربية أخيراً عن دار {الساقي}، يأتي في سياق الحديث عن واقع المرأة الصينيَّة، إذ يدخل أروقة خفيَّة من حياة الصين في القرن العشرين. يعرضُ الكتاب كيف تخطّت شينران قيوداً خطية مفروضة على النساء الصينيات الصحافيات، ووصلت إلى نساء كثيرات عبر البلاد. وبأسلوب حميمي حيوي، تشارك تلك النساء القارئ أسرارهن العميقة للمرة الأولى.

لثماني سنوات متواصلة قدَّمت شينران برنامجاً إذاعياً في الصين بعنوان {كلمات على نسيم الليل}، بدأت إذاعته عام 1989. عبره، دعت المستمعين الذين عاشوا القمع في ظل {الثورة الثقافيَّة} إلى حديث صريح عن شؤونهم الشخصية، فجاءت الاستجابة واسعةً والحكايات لافتةً. ذاع صيت البرنامج المسائي اليومي في جميع أنحاء البلاد بوصفه الثابت لما يعني أن تكون المرأة امرأةً في الصين الحديثة. قرون من الخضوع لآبائهن وأزواجهن وأبنائهن، تبعتها سنون من اضطراب سياسي جعلت النساء يخشين التكلّم جهراً عن مشاعرهنّ. حازت شينران على ثقتهن، ومن خلال تعاطفها وقدرتها على الإصغاء أصبحت أول امرأة تستمع إلى قصصهن الحقيقية.

صارت الحكايات التي سمعتها المؤلفة ودونتها في كتاب أشبه بكنز بالنسبة إليها. في المقدمة، تخبرنا أن القصص التي سنطالعها هنا كلها واقعيَّة إنما أسماء شخوصها مستعارة حمايةً للأشخاص المعنيين. وتروي لحظة مطاردتها في إحدى محطات القطار، عندما تلقَّت ضربةً على رأسها بهدف سرقتها وأول ما فعلته أنها تمسكت بحقيبة يدها حيث نسخة وحيدة من مخطوطة انتهت من كتابتها حديثاً. تصارعت مع مهاجمها الذي يريد حقيبتها وهي تمسَّكت بها رغم الألم: {لا شك في أن الحياة أهم من الكتاب، لكن من نواحٍ عدة كان كتابي هو حياتي. عندما صارعتُ لأجل الاحتفاظ بتلك الحقيبة، كنت أدافع عن مشاعري وعن مشاعر النساء الصينيات. كان الكتاب نتيجة أمور عدة، إن فُقدت مرة، سيكون من المستحيل إيجادها مجدداً. عندما نجول داخل ذاكرتنا فإننا نفتح بذلك باباً على الماضي، الطريق في داخله مليء بالأغصان ويختلف الدرب فيه كل مرة».

 

ذباب

 

أولى النساء اللواتي نلتقيهن على صفحات الكتاب تُدعى هونغ كسيو، مراهقة ماتت تاركةً يومياتها، لتصل بعد سنوات طويلة إلى يد المؤلفة. عندما بلغت هونغ الحادية عشرة من العمر، صارت تتعرَّض لملاحقة شائنة من والدها، استمرت طويلاً بعدما طلبت منها والدتها الرضوح، حفاظاً على تماسك العائلة، إثر معرفتها بالأمر. ولكن مذَاك فصاعداً، تنكَّر لها الأب ثم الأم. حينها، لم تجد هونغ من مهرب أمامها سوى أن {تقاصص} نفسها بأمراض استدعتها إلى جسدها. كتبت يومياتها في المستشفى. خطَّت وجعاً كانت تجده قليلاً تافهاً مقارنةً بمكابدتها آلاماً تعرَّضت لها في منزل والديها.

في دفترها، كتبت هونغ تقول: {الاحتفاظ بذبابة صغيرة أصعب بكثير من الاحتفاظ بقطة. الجميع يحبّون القطط. لو كانت لديك قطة لوجدت كثيرين على استعداد لمساعدتك. لكن ما من أحد يحب الذباب}. أسهم شغف هونغ بالذباب في إيصالها إلى {الحل النهائي} لمشكلتها. كانت قد استمعت إلى تحذيرات أحد الأطباء لها من أمراض ينقلها الذباب. فلمَّا تحسَّنت صحتها أصبحت مغادرتها سرير المرض محتملةً في نظر إدارة المستشفى التي كانت تشكو قلة عدد الأسرة. إذَّاك، عمدت هونغ كسيو إلى حشر ذبابة داخل جرح في ذراعها، ما أدى إلى تعفّن دمها وموتها.

«الأمهات اللواتي قاسين من الزلزال} الفصل الأكثر حزناً ضمن 15 فصلاً. هنا، تدخل إلى المدينة المأساة، {تانغشان} الصناعية. زارتها شينران عام 1992، كان بناؤها قد أعيدَ، بعد هزَّة أرضية دمرتها عام 1976 ذاهبةً بأرواح ثلاثمئة ألف شخص، وكاشفةً انهياراً كاملاً في قطاع الاتصالات في الصين آنذاك.

شينران ابنة الصين تكتبُ عن نساء بلدها وهي نفسها لم تنجُ من أهوال ثورة ماو تسي تونغ الثقافية. أمضت طفولتها المبكرة لدى جدتها، في الوقت الذي كان والداها فيه يكرّسان حياتهما لإعادة بناء الصين الجديدة.

أجدر من نصوص الكاتبات الصينيات عن بنات جنسهن بالانتباه هو أن الظلم الواقع عليّهن عبَّر عنه بعض الرجال أيضاً، فازداد صوتهّن رُجْحاناً. في إصداره الأخير {الطريق السوداء}، كتب الروائي المنفي هاجيان كابوسية ممارسات الرقابة على المواليد في بلده، واقع مأساوي تعانيه المرأة الصينيَّة في مواجهة سلطة حاكمة تضيقُ الخناقَ على العائلة لمنع إنجاب أكثر من طفل.

 

نساء الصين لسن وحدهنَّ يكابدن مرارة عيش في ظلّ ذكورية وتقاليد جوفاء، جعلت منهن مادةً لرواية. تسعنا هنا الإشارة إلى إيران مثلاً، حيث يسيطر نظام الملالي بما يفرضه من قوانين جعلت حتى من السجاد الفارسي أعلى منزلةً ربما من المرأة، فلا ريب تتعرَّض الإيرانيات لمضايقات عسيرةٍ وصلت يوماً إلى حرمانهنَّ من التَّبسُّم، وهنَّ ضحايا أعراف دينيَّة واجتماعيَّة، وقعُها نفسُه، وإن اختلفت، في أفغانستان حيث {طالبان}. وفي مساحات واسعة من المجال العربي، تحضرُ تقاليد وعادات مُكبِلة. وفي أفريقيا، يجرّ الفقر النساء إلى مرارة العمل خادمات في المنازل. حتى في الولايات المتحدة الأميركية وأورويا، أو ما اتُفق على أنه {عالم متحضر}، النساء أيضاً ضحايا واقع استهلاكي مبتذل.

ومعظم ذلك، أو كله ربما، يمارسه {داعش».