«معجم الأمثال المقارنة»... سلالٌ من وجدان الشعوب

نشر في 09-12-2014 | 00:01
آخر تحديث 09-12-2014 | 00:01
No Image Caption
من أجمل ما في الأدب المقارن أن نلمس التلاقي الإنساني على مستوى الفكر والعاطقة رغم التّعدد الجغرافي واللغوي والثقافيّ والدينيّ... فالإنسان يحلو ويسمو بتعدده واختلافه، إلاّ أنّه واحد، ونحن في حاجة دائمة إلى القبض على المشترك مع الإصرار على جماليّة الاختلاف وحضاريّته، إذ ليس المقصود القول: إنّ البشر يتشابهون تشابه أوراق الشجر، إنّما الهدف هو الدلّ على طرق تتعدّد وتمضي في تعدّدها إلى طاحونة واحدة تعيش على ماء الجمال.
في جديدها «معجم الأمثال المقارنة»، تكبِّر الأديبة والباحثة والمترجمة جولي مراد حجَرَها، وتمضي بقلم واثق نحو التجربة الإنسانيّة المختلفة، لتصطاد برأس قلمها رحيق النشاط الإنسانيّ المتجسِّد ببضع كلمات، بعد كلِّ خبرة وتجربة حياتيّتين. وهذه الكلمات القليلة كرَّستها ألسنة الناس أمثالاً وحكماً وأقوالاً مأثورة. وصارت نهج حياة، وثقافة، هي الأهمّ بين الثقافات، وإن لم تدخل – وللأسف برامج التعليم المدرسيّة والجامعيّة.أرادت جولي مراد الشدّ على يد لغتين هما: الفرنسيّة والعربيّة، لتقيم لهما وليمة فكريّة مشتركة، وهذه الوليمة تثبت أنّ الجماعات تلتقي في ساحة التجربة الإنسانيّة، وأنّ البحث عن التشابه يثمر الحبَّ واللقاء كما أنّ البحث عن المتعارِض يثمر الحرب والتفرقة.

ويظهر «معجم الأمثال المقارنة»، الصادر عن دار المراد، والدار العربيّة للعلوم ناشرون، أنّ الباحثة صاحبة ثقافة تتصف بالشموليّة، وتحسن الإحاطة بمادّة الأمثال، وهي مادّة عملاقة من الصّعب الخوض في تفاصيلها. إلاّ أنّ ذوق مراد الأدبي وقدرتها على معرفة ما تختار ساعداها في الغوص على لآلئ التجارب الإنسانية في أعماق العربيّة والفرنسيّة، فملأت شبكتَها سمكاً غريباً، شهيّ السباحة في ذاكرة الإنسان الفرد وذاكرة الجماعة في الوقت نفسِه.

اتبعت مراد في معجمها الترتيب الأبجدي، ما يسهِّل عمليَّة البحث على القارئ. وأحسنت في تركها مساحة من البياض على الورقة لا بأس بها، فترتاح العين من ضغط السواد، كما يرتاح ذهن القارئ أيضاً، لأنّ المادّة المقروءة كثيفة وتحتاج إلى الكثير من التفكير والتحليل وكم من الكتب أساء سواد الحبر بكثافته إلى بياضها ولو أنّ المضمون أتى على ما يرام.

ومن اللافت أنّ مراد شفعت بالعاميّة أيضاً وأدخلتها جنّة معجمها بعد ما ألبستها رداء الفصحى الذي ينسجم مع بساطة العاميّة وقربها من الحياة: «لبِّس العود يجود»، و{لا يقرقع في الدست إلاّ العظام»...

وحسناً فعلت الباحثة عندما زيَّنت معجمها بأبيات شعريّة تناقلتها الألسن أمثالاً مُمَوسقة على الطريقة الخليليّة. وهذه الخطوة تدعو إلى طرح السؤال هذا: ألم يكتب الكثيرون من أهل الشعر والفكر والأدب أمثالاً وحكماً وخواطر وأقوالاً مأثورة؟! فمتى يأتي من يطارد نتاج هؤلاء، ويأتي بما عندهم إلى معجم شبيه بمعجم مراد، وأظنّ أن في هذا العمل – إن حصل – منفعة كبيرة للتراث الشعبي الفكري، وفرحا لهؤلاء المبدعين وتقديرا.

تقديم ذهبي

تقول مقدِّمة مراد في مستهلِّ معجمها، على اختصارها، الكثير. فهي تعرف أهميّة ما تقوم به ومسؤوليّته أيضاً، وعليه، طاردَت: «البلاغة المقتضبة والعبرة المتناهية في بديع من الأداء والإيجاز»، وتسلّقت الشجر العالي في وجدان شعوب لغتَين، وقطفت بأصابع غير مرتجفة، بعدما نظرَت بعينين ثاقبتين، الفاكهة الّتي أنضجتها شمسُ التّجربة، ومرارة الحياة وحلاوتُها، وذكاء الإنسان الفطريّ، الإنسان البسيط الّذي يُبدعُ مثلاً وهو غير منتبه إلى ما في كلمته من ذهب لا يموت: «والأمثال نتيجة معاناة الإنسان مع بيئته، وتمرّس قوم بحياة أذاقته حُلوها ومُرَّها».

وكأنّ مراد تُعلن بحزن المبدعين الكبار أسفَها لكون أصحاب الأمثال الشعبيّة جنوداً مجهولين، تلاشت أسماؤهم في ذاكرة الدّنيا ليبقى كلامهم يتيماً وربّما أجمل القول ما كان يتيماً، وفي هذا السياق تقول مراد عن الأمثال: «... سرعان ما تتناقلها الألسن، وترّددها الشفاه في كلِّ مناسبة شبيهة بالتي قيلت فيها، بينما يغدو قائلُها من المجهولين». وتقف مراد على مسافة واحدة من كلّ الشعوب تلك المسافة التي ترفض العنصريّة والتنافس الذي يُغذّي روح العنصريّة، وهي بمقارنتها الناجحة بين الأمثال تدعو إلى الوحدة في ظلال التعدّد، طالما أنّ التجربة الإنسانيّة صرخة مُدويّة وإعلان لا يقبل الشكّ بأنّ أبناء آدم يتركون على ذاكرة الحياة وشماً مشابهاً، ويملأون سلال لغاتهم بعناقيد وبسنابل تقول الخبز نفسه، وببخور يقول الصلاة نفسها. وها هي مراد تتحدّث عن الثنائيات المتعارضة: «... الحبّ والكراهية، والوفاء والخيانة، والصدق والخداع، والسعادة والشقاء، والرّجل والمرأة...»، وتجدها: «واحدة لدى الشعوب كافة. والنظرة إليها والشعور إزاءها واحد».

يشعر قارئ معجم «الأمثال المقارنة»  بدفء حضاريّ، ورقيّ ثقافيَ، ويرى أنّ أجداده، الذين وُلِدوا في مكانٍ مُعيّن وفي هذا المكان أنزلوا ترابهم عن ظهورهم، هم وُلِدوا في أكثر من مكان وكان لهم أكثر من حياة، وتتأكد هذه الرؤية الشّعوريّة حين يجد المعنى نفسه في غير لغته، ذلك المعنى الآتي من معاناة وأنشطة بشريّة، ما يعني أنّه غير قابل للشك وأنّ المعرفة التي يقدّمها لا تحتاج لا إلى شهادة ولا إلى تكريس. وكم يبدو إنجاز مراد، وما شابَهَه من الإنجازات الأدبيّة الثقافيّة، إنجازاً رائعاً في زمن العولمة التي تجتاح الأرض مشارق ومغارب، وليتها تُحسن تعزيز المشترك بين البشر، بدل أن تحسن الشّد باليد القوية على اليد الضعيفة.

إنّ التبشير بالإنسان الواحد، مع الاحترام للخصوصيّة والانتماء الإيجابيّ، هو بعضٌ من بوصلة حضاريّة وإنسانيّة، تحتاج إليها العولمة التي تعتمد حقّ القوة وتتجاهل قوّة الحقّ عند المجتمعات غير القادرة على المواجهة في ميدان العالم الذي أصبح قرية بالمعنى التكنولوجي ولن يعرف أن يصبح قرية بالمعنى القيميّ والحياتيّ والإنسانيّ.

يثبت معجم مراد بحُلَّتِه التي أُخرج بها، وبلائحة مصادره، ومراجعه، أنّ صاحبته قامت بجهود مضنية، لتنتج كتاباً يصنعُ تاجَهُ مِن عرقِ قلمِها، ويجد له مكاناً حميماً في مكتبة كلِّ قارئ يعرف طعم فَمِه، ويعرف أنّ الإنسان كائن لا يحتمل التجزئة والتعدّد السلبيّ، ويعرف أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.

back to top