ما قل ودل: السلطة القضائية هي القاضي على منصة الحكم
تحية ووداع لمستشار جليل
هو المستشار أحمد حسين عرفة، نائب رئيس هيئة قضايا الدولة في مصر، الذي دافع عن الوجه الحضاري للكويت، يوم الأحد الماضي عندما كان قادماً على الخطوط الجوية الكويتية، بأن نبه الموظفة المكلفة بالتحقق من ختم جوازات القادمين، بأنها في المطار وأخذ يكرر لها ذلك وهو يطالبها بالتوقف عن سب المصريين واتهامهم بالهمجية، فاستنجدت بالضابط الموجود في الغرفة ضد هذا المصري المتمرد، وهرول الضابط ليصطحب المستشار إلى غرفته معتذراً له.ولم يكن المستشار في موقفه المدافع عن مصر الحضارة إلا مدافعاً عن الوجه الحضاري للكويت، فالمطار هو الواجهة الأولى للكويت.والقصة لم تنته فقد تقدم المستشار الجليل فور عودته بطلب إعفائه من تجديد عقده، بعد أن أوشكت السنة الأولى لإعارته من مصر على الانتهاء.وقد تكون لديه أسبابه وظروفه العائلية التي تدعوه إلى ذلك، ولكن ما حدث في المطار هو القشة التي قصمت ظهر البعير.عطفاً على المقالين السابقينعطفا على المقالين المنشورين على هذه الصفحة في عددي الجريدة الصادرين في 28 سبتمبر و12 أكتوبر الماضيين، الأول تحت عنوان "القضاء... الضمانات" والثاني تحت عنوان "القضاء ليس سلطة مطلقة في نظام الحكم الديمقراطي".وقد آثرنا في بحثنا لضمانات استقلال القضاء، أن نبدأ المقال الأول ببيان الضمانات التي يكفلها القانون الحالي، وأن نشير في المقال الثاني إلى أن القضاء سلطة في منظومة الحكم الديمقراطي، وهي المنظومة التي تحد فيها كل سلطة من السلطة الأخرى، في ظل مبدأ الفصل بين السلطات ومبدأ سيادة القانون، وهما جوهر النظام الديمقراطي، وهي إشارة جاءت في عجالة لا تحيط بكل ما يدعم القضاء من هذه المنظومة، والذي سيرد في موضعه من هذه الدراسة، التي ننشرها على حلقات في هذه المقالات.حظر نزول أي سلطة عن اختصاصهاوالواقع أن الدستور عندما أقام– في المادة (50)– نظام الحكم على أساس فصل السلطات قد قرن ذلك بحكمين أساسيين هما:1- أن الفصل بين السلطات يكون مع تعاونها وفقا لأحكام الدستور.2- أنه لا يجوز لأي سلطة النزول عن كل أو بعض اختصاصها المنصوص عليه في الدستور. ويتأبي مع هذا الفصل ومع هذا التعاون ومع هذا الحظر، أن ينصب القاضي نفسه مشرعا، فالقاضي يطبق القانون ولا يصنعه.وإن الدستور إذ نص في المادة (163) على أن يبين القانون ضمانات القضاة والأحكام الخاصة بهم، فإنه لا يجوز للسلطة التشريعية النزول عن هذا الاختصاص، فهو مجال محجوز لها، تتولاه من خلال القوانين التي تسنها.تكوين السلطة القضائية ولعل المغايرة في صياغة نصوص الدستور التي حددت تكوين كل سلطة من السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية لم ترد عفواً بل قصداً، فقد عهدت المادة (51) بالسلطة التشريعية إلى الأمير ومجلس الأمة، وعهدت المادة (52) بالسلطة التنفيذية إلى الأمير ومجلس الوزراء والوزراء، ولم تعهد المادة (53) بالسلطة القضائية إلى الأمير والمجلس الأعلى للقضاء، بالرغم من أن الدستور نص في المادة (168) على أن "يكون للقضاء مجلس أعلى ينظمه القانون ويبين صلاحياته".وغنيّ عن البيان أن المجلس الأعلى للقضاء لا يعدو أن يكون إحدى وحدات الجهاز الإداري للسلطة القضائية يمارس الصلاحيات التي يحددها القانون، والتي تتعلق بشؤون المحاكم والقضاة، ولا يمارس عملا قضائيا، أو عملا تشريعيا وفقا لمبدأ الفصل بين السلطات إلا ما نص عليه القانون.وإذ عهدت المادة (53) بالسلطة القضائية إلى المحاكم، فهي وحدها التي تتولى هذه السلطة بالأحكام التي تصدرها، باسم الأمير، في حدود الدستور.وهي مغايرة في صياغة نصوص الدستور تتداعى منها معان كثيرة أهمها:1- استقلال القضاءوأساس ذلك أن المادة (53) من الدستور فيما نصت عليه من أن "السلطة القضائية تتولاها المحاكم باسم الأمير في حدود الدستور" قد رسخت بذلك مبدأ استقلال القضاء، وهو نص يدعم هذا الاستقلال أكثر مما يدعمه مبدأ الفصل بين السلطات، الذي تتساوى فيه السلطات الثلاث.بل أكثر من ذلك، فقد حددت هذه المادة المفهوم الصحيح لاستقلال القضاء بأنه استقلال القاضي على المنصة التي يصدر منها أحكامه، وهو ما أكدته المادة 163 من الدستور عندما استهلت أحكامها بأنه "لا سلطان لأي جهة على القاضي في قضائه". فالقاضي الفرد ولو كان في محكمة جزئية، من أعلى منصته هو السلطة القضائية، حين يفصل في المنازعات التي تشجر أمامه، فلا يجوز لقاض آخر أن يتدخل في القضايا التي تنظر أمامه، ولو كان أعلى منه درجة، أو كان رئيس المجلس الأعلى للقضاء، أو كان هذا المجلس ذاته، بل إن هذا التدخل يعتبر جريمة من جرائم التأثير في جهات القضاء التي يعاقب عليها قانون الجزاء في المادة (146). ومن هنا فإن استقلال القضاء والبحث عن دعائمه يكون منظوراً فيه إلى كل قاض يجلس على منصة الحكم، فهو الذي تتمثل به السلطة القضائية.2- الأمير يدعم استقلال القضاءوالواقع أن صدور الأحكام باسم الأمير إعمالا لأحكام المادة (53) من الدستور يحمل دلالتين:الدلالة الأولى: أن الأمير بدعم استقلال القضاء.ذلك أن جوهر استقلال القضاء هو أن تحترم أحكامه، وأن تبادر السلطة التنفيذية إلى المعاونة في تنفيذه، ومن هنا فإن النص في المادة (53) من الدستور على أن يكون صدور الأحكام باسم الأمير لا يعدو أن يكون دعما لاستقلال القضاء، لأنه ينطوي على أمر للسلطة التنفيذية التي يتولاها الأمير بواسطة وزرائه طبقا للمادتين 52 و55 من الدستور، أمر باحترام إحكام القضاء وإلزام هذه السلطة بالمقارنة في تنفيذها.ومن الجدير بالذكر أن أغلب الدساتير تنيط برئيس الدولة دعم استقلال القضاء، سواء بنصوص في الدستور تقرر ذلك صراحة أو ضمنا، ومن بين هذه الدساتير ما نصت عليه المادة 64 من دستور فرنسا من أن "يكون رئيس الجمهورية هو ضامن استقلال السلطة القضائية".الدلالة الثانية: عدم تدخل الأمير في شؤون العدالة والقضاياذلك أن هذا المبدأ هو موروث تاريخي في الكويت، وأن حضارة الكويت، التي تتمثل بهذا المبدأ، قد سبقت تقريره سواء في مرسوم تنظيم القضاء أو في الدستور، ولعل قصة الدعوى القضائية التي اتخذ إجراءاتها وكيل صاحب السمو الأمير الراحل الشيخ عبدالله السالم، لصد تعدٍّ وقع على أرض يملكها سموه، تؤكد رسوخ هذا المبدأ في ضمير سموه ووجدانه عندما أصر سموه على أن يكون القضاء هو صاحب الكلمة الأخيرة في هذا النزاع، وبالرغم من كل المحاولات التي بذلها المدعى عليه بالتعدي، عارضا أي ترضية يقبلها سموه، بعد إزالة هذا التعدي، فهي رسالة أراد أن يوجهها سموه إلى الشعب كله وإلى كل أفراد الأسرة الحاكمة، بأن الحاكم يخضع للقانون قبل المحكوم، وأن الجميع على قدم المساواة أمام القضاء.وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.