فضائح عائلية
كتب الزميل عبدالمحسن جمعة مقالاً غاية في الأهمية يوم الخميس الماضي عن ظاهرة العنف في البلد مرجعاً إياها لأسباب عدة منها انغراس العنف اللفظي والجسدي في وجداننا كوسيلة لحل المشاكل وفض النزاعات، بسبب تصدر العنف "للحدث السياسي في قاعة مجلس الأمة طوال السنوات العشرين الماضية"، ونقص في التشريعات الحديثة لرجل الأمن لفرض هيبته "ضمن القانون"، وصولاً إلى انغلاق البلد وشح المتع ووسائل الترفيه فيه حتى "تحول البلد إلى مرجل يغلي".تعتبر ألمانيا اليوم أحد أهدأ الدول الأوروبية وأكثرها استقراراً بارتفاع ملحوظ في نسبة السعادة بين سكانها على الرغم من أنها من أهم الدول المصدرة للعنف خلال القرن الماضي، ألمانيا لم تغير منهجيتها فحسب، ولم تغير سياسييها ولم تهدم حائط برلين وتفتح أبوابها للحريات ومتع الحياة الترفيهية، ولم تقنن وترتب العلاقة بين المواطنين وموظفي أمنها فقط، ألمانيا، والأهم من كل ما سبق، حررت نفسها من ماضيها بمواجهته ودراسته والاستفادة منه.
نحن في الدول العربية، وأكاد أخصص وأقول خصوصاً في الكويت نكره فتح الملفات، وترفض حكومتنا ونظامنا مصارحة أجيالها القادمة بتاريخنا الحقيقي، فتقدمه لهم صفحات بيضاء من الحب والإخاء في حين تدور فقاعات الغضب تحت سطح الحياة الذي يبدو هادئاً. إلى سنة مضت، كانت أهم الكتب التي تعرض تاريخ الكويت الحقيقي ممنوعة من دخول البلد، وإلى اليوم، كل محاولة جادة لتحليل وفهم المشهد السياسي والاجتماعي الحاليين يقابلان بالرفض والاتهام بالخيانة و"نشر الغسيل". نبدو نحن كضحية حادثة مرعبة غير مسموح لها بالحديث عن تجربتها، مطلوب منها أن تكبت وتخفي ليستمر مظهرها الاجتماعي مصقولاً، حتى لتغزوها الأمراض النفسية وتهدم صحتها الروحية والجسدية غضبتها المكبوتة وآلامها المضغوطة، نحن لا نتحدث، وغير مسموح لنا أن نتحدث، عن أشياء كثيرة هي السبب في حالة الانفجار الذي وصلنا إليه، نحن لا نتحدث عن تاريخ وجودنا على أرض الكويت، لا نتحدث عن توليفة الشيعة والسنّة وكيف بدأت وأين تواجهت وتضادت، عن تآلف الحضر والبدو وكيف التحموا وعاشوا على أرض الكويت، كيف اختلفوا وتعاركوا وتصالحوا، نحن لا نُدرّس تاريخ الأسرة الحاكمة الحقيقي بكل تفاصيله وخباياه، تجدنا نتوارث الغضبات والآلام، نجرجر العنصريات من جيل إلى جيل دون فهم حقيقي لما كان ومسبباته، فنبقى على غضبنا، متوارثين عنصريات وعداءات لا نعرف تحديداً كيف بدأت ولمَ تستمر.غسيلنا تعفن بمياهه الراكدة، يحتاج إلى نفضة قوية ونشر طويل في شمس الظهر الحارقة، نحتاج إلى أن نتحدث، يحتاج الجيل الجديد تحديداً إلى أن يتحدث عن سبب غضبه، عن دوافع تحامله على بعضه بعضا، عن سبب تكومه في مجموعات لا تمتّ لزمنه بصلة: مجموعة طائفية، مجموعة قبلية، مجموعة طبقية، كل يرفع عصاه في وجه الآخر، ترى لمَ يحتاجون إلى هذه التكتلات العنصرية المريضة؟ وكيف يستخدمونها دون أدنى رادع وطني وقومي في استثارة العنف وتفريغ الغضب؟ يعني بالعربي الصريح، لمَ يضربون بعضهم وهم في الأغلب إما كلهم كويتيون أو كلهم عرب ومسلمون على أبعد تقدير؟ لقد مرت على الكويت أحداث كثيرة، فاتسعت رقعتها واختلط أهلها ودخل عليها من أقاصي الشرق إلى أقاصي الغرب، وهو التنوع الذي كان يجب أن يمد تسامح أهل البلد وانفتاحهم على الآخر، فلمَ أصبح تنوعنا هذا عبئاً علينا؟ ولمَ لا نستطيع الحديث عن تاريخنا وإن كان فيه ما يسيء ويشين؟ كيف سنتعلم، متى سنتعلم إذا بقيت حكوماتنا ونظامنا يعاملون تاريخنا وأخطاءنا على أنها فضائح "عائلية" غير قابلة للنشر أو للنقاش أو حتى التساؤل حول مسبباتها؟ في ألمانيا، امتلأت شوارعها بشاشات كبيرة تعرض أكبر ذنوبها إبان الحرب العالمية الثانية كنوع من الفضفضة العلاجية للشعب، وباعتبارها دروساً يجب أن يتعلمها هذا الشعب، وأنا هنا لا أطالب بعرض مرئي عندنا، فهذا ضرب من خيال، ولكنني أقول حتى نعرف إلى أين نحن ذاهبون؟ وكيف وصلنا إلى موقعنا هذا، نحتاج إلى أن نفهم الماضي، فإن فعلنا أزلنا مسببات الحنق، فتهدأ النفوس ونتمكن من البدء من جديد. لا تجعلوا تاريخنا يبدو كأنه "حش" خاص يتداوله الناس فيما بينهم، فيملؤون جوانبه بمبالغاتهم ويحشونه بغضبهم وعنصرياتهم، استعرضوه وناقشوه على الملأ، حتى نفرغ من آلام الماضي وأخطائه ونستعد للجديد.