ما عاد قائد العالم الحر
إن كان الرئيس والمدافعون عنه يظنون أن هذا ظلم، فهم مبررون في رأيهم هذا، لكن الرئيس الذي يستخف بأعمال القيادة المعنوية لا يمكنه التذمر عندما يُدان لأنه أخفق في توجيه الرسالة المناسبة إلى العالم، فالرئيس الذي يعتبر نفسه قائد العالم الحر ما كان ليقترف خطأ مماثلاً، أما مَن يستخف بهذا المنصب فسيرتكب خطأ مماثلاً لا محالة.
ربما فهم أوباما بحدسه أن أي مسيرة حاشدة في باريس ستشكل مناسبة لالتقاط الصور أكثر منه رداً حقيقياً على الإرهاب الإسلامي أو العنف المناهض للسامية، وربما سعت أجهزة الاستخبارات لمنع زيارة عفوية يقوم بها الرئيس أو نائبه بايدن لأسباب أمنية، ولكن مهما كانت أسباب عدم إرسال ممثل أميركي عالي الشأن إلى ذلك الحدث المهم في باريس، يجعلنا نستخلص أمراً مهماً بشأن مقاربة هذه الإدارة إلى مسائل مماثلة، فضلاً عن الرئيس الحالي، فباختيار البقاء بعيداً عن مسيرة مماثلة لم تعبر الولايات المتحدة عن استخفافها العام بالجهود المبذولة للرد على موجة الكره الممتدة فحسب، بل برهن الرئيس أيضاً أنه لا يفهم أن تولي قيادة العالم الحر يتطلب أحياناً المشاركة في مناسبات محددة، مع أنه يفضل البقاء في الوطن. تُظهر رمزية المقاطعة بوضوح لمَ يُعتبر أوباما أول رئيس أميركي يحتقر علانية هذا المنصب منذ الحرب العالمية الثانية.يقلل المدافعون عن الإدارة من أهمية انتقاد قرار الولايات المتحدة المفاجئ عدم إرسال ممثل رفيع المستوى بالادعاء أن هذه مجرد رمزية، ويدعون أن التعاون الأمني الأميركي مع فرنسا ضد الإرهاب أكثر أهمية من تفاهات مماثلة. ولا شك أنهم محقون في هذا الشأن من الناحية العملية، حتى إقرار المتحدث باسم البيت الأبيض جوش إرنست بأن خطأ قد ارتكب سعى للتشديد على أن هذه الهفوة تتعلق بالشكل أكثر منه بالمضمون، فكانت المسيرة رمزية، ومع أن كثيرين في وسائل الإعلام كانوا مستعدين للتعاطي معها على أنها جواب مهم على الإرهاب الإسلامي وتنامي مد كراهية اليهود الذي اجتاح أوروبا في السنوات الأخيرة، اعتبرتها الإدارة الأميركية غير ملائمة البتة. فبعد يوم من هذا الحدث المهم ظل اليهود الفرنسيون محاصرين مع تولي آلاف الجنود ورجال الشرطة حراسة مؤسساتهم، وعلينا أن ننتظر لنرى ما إذا كنا سنشهد تغييراً حقيقياً في الجو السائد أو أي أمر مماثل نتيجة كل هذه الخطابات الصائبة التي تناولت الوحدة في قارة أوروبية برهنت أنها أكثر ميلاً إلى استرضاء الإسلاميين منه إلى النضال، وحيث انتقلت معاداة السامية من الهامش إلى الجوهر خلال العقد الأخير.
لكن كل هذا لم يعفِ الإدارة من واجب الانضمام إلى أمم أخرى أرسلت قادتها إلى باريس للإعراب عن تضامنها بعد اعتداءات مميتة على الغرب، حتى إن تجاهل المدعي العام إريك هولدر الظهور في هذه المسيرة، مع أنه كان في باريس للاجتماع بمسؤولين أمنيين شاركوا في المسيرة، يعبر بوضوح عن موقف الإدارة.تعثّر الرئيس بتجاهله هذه المسيرة بما دعاه "علم نظريات" وضع ما، ولكن من الضروري تذكيره بأنه بعدما أدلى بتصريح عن موت جيمس فولي على يد إرهابيي داعش، شارك في جولة غولف صُور خلالها وهو يمازح مرافقيه ويضحك. أقر الرئيس بعد ذلك بأن ما قام به كان خطأ، إلا أنه بإقراره هذا كان يعترف بأن تزامن هذين الحدثين شكل خطوة سياسية غير صحيحة فقط، لكن "علم النظريات" لا يقتصر على التعرض في وسائل الإعلام لانتقاد نقاد متأهبين لاستغلال أي هفوة. يُعتبر أوباما رجلاً سعى وراء القوة التي يحملها منصب الرئيس واعتنقها، ولكن رغم إمضائه ست سنوات في البيت الأبيض، لم يتعلم أن جوهر هذا المنصب لا يقتصر على القدرة على اتخاذ قرارات مهمة، بل يشمل أيضاً القيادة الأخلاقية. ويعني ذلك أن الرؤساء، على غرار قادة العالم كافة، لا يؤدون دوراً في مسرحية سياسية فحسب، بل يحددون أيضاً أطر حوار أمتهم الوطني وسلوكها في مسائل بالغة الأهمية. أدرك قادة عظماء، أمثال فرانكلن ود. روزفلت ورونالد ريغان، هذا الواقع، مع أن منتقديهم هاجموهم، متهمين إياهم بالاستعراض والمبالغة في هذا المجال. لكن أوباما لم يرفض تأدية هذا الدور فحسب، بل يبدو أنه لم يفهم أيضاً أن هذه الأعمال الرمزية تُعتبر مهمة لصنع السياسات بحد ذاته.لكن هذه المسألة لا تقتصر على تجاهل بسيط للرأي العام، إذ يُظهر رد الرئيس الباهت على مجزرة شارلي إيبدو ومن ثم الاعتداء على متجر للأطعمة اليهودية في باريس (علماً أن أوباما تفادى تصنيفه بأنه عمل معادٍ للسامية في تصريحه العلني بعد وقوع هذا الاعتداء) انزعاجه في مسائل مماثلة. أمضى هذا الرئيس معظم وقته في منصبه هذا محاولاً دأب التواصل مع العالمين العربي والإسلامي بغية تبديل نظرتهما إلى الولايات المتحدة، ولا شك أن إخفاقه في تحقيق هدفه هذا بات جلياً، إلا أن استخفافه بالمشاركة في رد رمزي على التطرف الإسلامي يتعارض بوضوح مع حماسته لتخفيف التوتر في التعاطي مع دولة إيرانية تُعتبر راعي الإرهاب الأول. لا يبرز تعاطيه ببرودة مع مسيرة باريس بسبب الغياب الغريب والمريب لأي ممثل أميركي، مهما كان منصبه، بل لأنه يتلاءم مع النظر السائدة إلى مواقفه.إن كان الرئيس والمدافعون عنه يظنون أن هذا ظلم، فهم مبررون في رأيهم هذا، لكن الرئيس الذي يستخف بأعمال القيادة المعنوية لا يمكنه التذمر عندما يُدان لأنه أخفق في توجيه الرسالة المناسبة إلى العالم، فالرئيس الذي يعتبر نفسه قائد العالم الحر ما كان ليقترف خطأ مماثلاً، أما مَن يستخف بهذا المنصب فسيرتكب خطأ مماثلاً لا محالة.* جوناثان س. توبين