بـارداً منعشــاً كــان ليــل الإسكـنـدريـــة، وكــنـت مـــع الأصـــــدقــــــاء د. عبدالله حارب، ود. عبدالخالق عبدالله، والكاتب الإسكندراني منير عتيبة، حينما توقفنا قرب بائع كتب. ولفتت نظري رواية كتب على غلافها "الطبعة الرابعة عشرة"، نظرت إلى منير سائلاً: "من هذا الكاتب؟"

Ad

ابتسم ناظراً للبائع الذي تبسم قائلاً بشيء من الهزء: "كاتب مهم".

حكى لي البائع أن الرجل يطبع في كل مرة خمسين نسخة، يأخذ هو ثلاثين نسخة ويوزع عشرين نسخة على أربع مكتبات بواقع خمس نسخ لكل مكتبة، وما يلبث بعد شهرين أن يأتي حاملاً طبعة جديدة وهكذا حتى الطبعة الرابعة عشرة، والنسخ لم تتعد 750 نسخة وأكثر من نصفها موجود لدى الكاتب نفسه. وختم البائع حديثه قائلاً بنبرة لا تخفي ضيقه: "النشر صار لعبة وشطارة للضحك على القارئ!"

تذكرت الحادثة تلك وأنا أتجول قبل فترة قليلة في معرض أبوظبي الدولي للكتاب، حينما كنت أتوقف أمام دور نشر عربية، أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها أقامت وصلاً لا بأس به مع القارئ العربي، وإذ بي أرى الظاهرة نفسها بوجود روايات عربية مكتوب على غلافها بالخط العريض: الطبعة الخامسة أوالسادسة أوالسابعة. روايات أعرف بعضها، ولا أعرف البعض الآخر. ولكي أطمئن لما يدور، جالست أحد الناشرين العرب الذين أثق برأيهم وصدقهم، وسألته عن هذه النسخ التي تتوالد من تلقاء نفسها، فضحك وقال: "شغل ناشرين".

رحت أنظر إليه، فأضاف وقد لبس صوته الجد: "النشر تجارة، والناشر تاجر، وعلى أي تاجر أن يقرأ روح السوق بشكل دقيق".

كنت أنظر إليه، وهو يتحدث بثبات: "كما في كل مكان في العالم، القارئ العربي صار يقف أمام أي كتاب مكتوب عليه الطبعة الرابعة أو الخامسة أو السابعة، فشيء ما خلف هذه العبارة يولّد في ذهن القارئ أهمية الكتاب مما يدفعه إلى الشراء".

سكت صديقي الناشر وكأنه قال ما عنده، ولحظتها سألته: "كم عدد النسخ في كل طبعة؟"

ابتسم هازاً رأسه وبعث يقول: "لا تسأل، مهزلة". وكما لو أنه يحادث نفسه، أضاف: "كذب في كذب".

واحتد صوته قليلاً وهو يقول: "رواية لم يمض على صدورها شهران كيف تطبع أربع أو خمس أو سبع طبعات؟" وتلاقت نظراتنا وهو يقول:

"أي طبعة محترمة يجب ألا تقل عن ألف نسخة، فهل تصدق أن كاتباً عربياً برواية بائسة يبيع سبعة آلاف نسخة خلال شهرين أو ثلاثة أشهر؟ حتى محمود درويش لم يكن يبيع بهذا العدد!"

ابتسمت لصديقي الناشر وقد احتد في قوله وبان التأثر عليه، وقلت له:

"آسف ضايقتك".

"يضايقني وأنا ناشر عربي أن أرى ناشراً مخادعاً وكاتباً متواطئاً معه".

لم أجد ما أرد به على صديقي فبقيت ساكتاً. وجاءت فتاة صغيرة تسأل عن رواية جديدة، فأشار إليها صاحبي: "هناك يا بابا".

أعلم تماماً الظرف المالي الصعب الذي يعيشه الناشر العربي، وهو جزء من الظرف المنعطف الخطير الذي تعيشه الشعوب العربية التي باتت مشتتة في بقاع الأرض، وأقدّر للناشر العربي وقوفه بمغامرة النشر في زمن العنف الأعمى والقتل والتوحش، لكن شرف المهنة يحتم عليه ألا يخادع القارئ العربي، فجميع ما يحيط بهذا القارئ بات مخادعاً، ولم يبق له إلا طوق الإبداع ولا ينبغي له أن يتلوث ويلوث عقل القارئ!

ودّعت صاحبي الناشر وابتسامة تعلو وجهي، وقلت له:

"لا تتضايق، القارئ وحده قادر على كشف الزيف مهما طال الزمن، ومصير كل الفقاعات إلى تبخر".

هز رأسه مؤيداً، وابتعدت أجر قدمي أتجول بين الكتب.