ثقافة الكذب
قديماً قال العرب "أعذب الشعر أكذبه"، وقالوا أيضاً "الشعر يغني عن صدقه كذبه". هذه المقولات قيلت في الشعر فقط، وتختص به. والكذب المقصود هنا هو ما يتعلق بالمخيلة الجامحة وتأليفها لصور غير واقعية، وما يتعلق أيضاً بالمبالغات في المديح أو الوصف وما يشابههما من أغراض. يضاف إلى ذلك أن مثل هذه الأقوال، هي من الأدبيات ذات الصلة بدرس البلاغة والنقد الأدبي، ولكن انزياح ثقافة (الكذب) إلى عموم حياتنا ومعاشنا بات من الأمور المشهودة والمشهورة، وبات تمرير وقبول هذا النمط من الأكاديب زاداً يومياً لا يستغنى عنه! تفتح التلفزيون فيقفز إلى صالة معيشتك كل أنواع الأكاذيب: الوجوه التي لا تملك حداً أدنى من الحرفية المهنية أو القبول، الملامح التي فقدت بصمتها الإنسانية تحت أطنان المديح والحب والإعجاب الرخيص تكال لأي مخلوق يجلس في حضرة الشاشة المضيئة، أطنان من النفاق تلتهم وقت البرنامج لإعلام المطربة (س) التي أكلها الزمن أنها ما تزال أجمل الجميلات وأصبى الصبايا! أو لإقناع الممثل (ص) بأن غيبته عن الساحة الفنية أوقفت دوران الأرض وعطلت مسيرة النجوم! تفرك عينيك و"تبحلق" في ما يجري أمامك، وتتساءل: هل ما يحدث حقيقي؟!
تنثال عليك الإعلانات والصور عن العشبة العجيبة، أو الكريمات التي تعيد العجوز صبية، والسمراء أنصح من طلعة الشمس، والمترهلة تنافس نعومي كامبل في استقامة قوامها، أما الوعود برحلة سفر خرافية، ومشروع العمر، والسحب المليوني، والعسل الذي يشفي السرطان ويزيل الكساح ويجعل الأعمى بصيراً فتلك حكايات مكررة. تذهب في زيارة أو إلى تجمع عائلي أو محفل أو منافسة، لترى القبلات تمنح بلا حدود، والابتسامات توزع كالهدايا، وكلمات "حبيبي" و"حبيبتي" و"فديتك" تمنح لكل غريب ونكرة بلا تحفظ أو تفكير! وتسمع أن فلانة يحبها زوجها كما يحب قيس ليلى، وأن أبناء علانة (تبارك الرحمن!) قمة في التفوق والعبقرية، أما فلان فيحج كل سنة ويعتمر كل شهر، وآخر أصبح نجماً من نجوم المجتمع في التحدث عن بر الوالدين والأسرة السعيدة! ثم تخرج من هذا المسرح البشري، لتشهد كيف تسيح زبدة الكلام وبهارج اللغو تحت شمس الحقيقة، ولا "يحوجك" ذلك غير أن تقلب الوجه الآخر للعملة! تلجأ إلى الصحف اليومية فتصيبك حساسية مزمنة، وتحتار من تصدق ومن تكذب! فالناس في الصحف أصبحوا إما موضوعاً للمديح ومادة لإسباغ صفات القديسين والمنزهين والرائعين! وإما هدفاً رخيصاً للتشهير والتشويه والتشكييك في الذمم والمصداقية!. ففي هذه الصحيفة، (فلان) وطني وشجاع وحر، وفي تلك الصحيفة نفس (الفلان) وصولي ونرجسي ومتقلب. وأنت كمواطن بسيط لا تعرف هذا (الفلان) معرفة شخصية، فتشتط تلافيف مخك في محاولة لفرز هذه الأكوام من الادعاءات والأكاذيب. وإذا يممت وجهك شطر الخبر والمعلومة، فلن تجد إلا صياغات متباينة لنفس الخبر، كل حسب سياساته وتوجهاته. أما في فضاء الإنترنت فالمسألة أشد استفحالاً، ما دامت الحرية بلا سقف والذمم بلا حدود. وتعود لحيرتك من تصدق ومن تكذب!لن نطيل في تعداد المزيد حول الشهادات الكاذبة والمناصب الكاذبة، والدرجات العلمية الكاذبة، والمؤلفات الكاذبة، لأن القائمة تطول، والتفاصيل شائنة ومخجلة. ويبدو أنه لم يبق من الصدق إلا ورقة توت!