كنت أصغيت في البيت إلى "السداسية الوترية" الأولى للموسيقي الألماني برامز مراتٍ عدة، فهي آيةٌ من آياته، بعد أن هجرت هذا الموسيقي الخريفي فترة ليست قصيرة. وهذه طبيعةٌ يشترك فيها محبو الموسيقى الكلاسيكية جميعاً. إذ ليس من اليسير أن يرابط أحدنا مع عدد من الموسيقيين بعينهم فترة طويلة. فالرغبة في التجوال بين مئات الأسماء والأعمال، والرغبة في الكشف عن الجديد الذي لا حدّ له عادة ما تأخذنا بعيداً. وشاقني أن أعود إلى جوهرة برامز أكتب عنها، ولكني شعرت أنها أسمى من أية قدرة لغوية على التعبير.

Ad

 أبعدني عن المهمة ذهابي، الذي تقرر دون سابق إنذار ومعرفة، لحضور أوبرا "التركي في إيطاليا"، التي تُعرض في " دار الأوبرا الملكية" في الكوفن غاردن، والتي وضعها الإيطالي روسّيني (1792-1868) عام 1814، وكان حينئذ في الثانية والعشرين من العمر.

    مع روسّيني لك أن تغلق عينيك، وتغضّ طرفاً عن النص الشعري، وتصغي لموسيقاه وحدها. لأن موسيقاه ألحان أغانٍ لا تنفد. إنه "موتسارت الإيطالي"، والأكثر شعبية بين مؤلفي الأوبرا، الذي وضع 39  أوبرا في أقل من عشرين عاماً، وتوقف عن التأليف وهو لم يبلغ الأربعين، وقضى الأربعين الباقية من حياته صامتاً إلا من بعض أعمال بيانو غامضة، يتفنن بمطبخه وملذات حياته الخاصة. ولكن براعة المخرجيْن البلجيكي "ليسر"، والفرنسي "كوريه" وسحر الديكور الذي يذكر بتصاميم وألوان الرسام ديفيد هوكني المشرقة، وأصوات مغنين لا يخيبون ذائقة، كلها تجعلك تبخل أن تفوّت عليك أية فاصلة للمتعة. أضيف إلى ذلك بهو دار الأوبرا الجليل، والجمهور الذي يحاول ما استطاع أن يرتفع إلى مستوى من السلوك يليق بفن الأوبرا. لذلك فأنت تُقبل على العرض ملء السمع والبصر.

    في أوبرا "التركي في إيطاليا"، وهي ليست أشهر أعماله إذا ما قورنت بـ"حلاق أشبيلية" و"سندريلا"، موسيقى ذات دعابة، لا تخلو من مسحة أسى خفية، تُحسها حتى في آلة البوق، في مفتتح الأوبرا. إنه مثل موتسارت، لا يخلف جرحاً في المستمع، وأبطالُه، حتى الأشرار منهم، مقرّبون للنفس جميعاً. وحبكته القصصية المتشابكة تنتهي بحلول لمصلحة الجميع، لأن الرحمة، وسعة الأفق، والغفران جوهرٌ فيها. وهذا ما قطفناه، نحن المشاهدين لهذا العرض: التركي الشاب "نسيم" يزور إيطاليا بحثاً عن مغامرة حب. يلتقي "فيورِللّا" اللعوب، التي لم تكتفِ بزوج مغلوب على أمره، وعشيق في السر. ولكنه يلتقي الغجرية "زاييدا" أيضاً، وكانت له معها علاقة سابقة. هؤلاء الشخوص الخمسة (امرأتان وثلاثة رجال) عناصر حبكة، لو لم تكن بين يدي روسيني، لكانت حبكة سوداء، مشحونة بالخيانة. نوازع شهوانية تحيط بضحية واحدة، هو الزوج المغفل "جيرونيو". ولكن مباهج روسّيني أعطت كل تفصيلة لوناً وردياً. "فيورِللا" تختلق مزيداً من الأعذار من أجل تعدد العشاق:

إذا ما استراح النسيمُ على وردة يعانقها،

وانتقلت الفراشةُ من زنبقة إلى وردة تصطفيها،

فإن النسيمَ والفراشةَ كليهما

يتحركان بفعل سطوة الحب.

    فلمَ لا تتحرك هي شأن الفراشة، إذن؟ وتحاول، ولكن "سليم" لا يقل عنها طيشاً. فهو يفتنُها ويفتن الغجرية في آن. ولأنه عثماني "مستعد لأن يبيع زوجته، التي لا يرغب فيها، في سوق النخاسة"، على حدّ تعبيره، يهجر "فيورِللا" من أجل الغجرية. فتعود "فيورللا" خائبة إلى البيت لتجد ورقة طلاقها في انتظارها، وحقائبها مرمية على الرصيف. وهنا تبدأ تنهدات مشاعر الذنب والخسران. ويصغي الزوج من بعيد فـتأخذه الرأفة، ويعيدها عن رضى إلى بيت الزوجية. ومثل موتسارت في رائعته "كلهنّ كذلك" يعتذر الخاطئ، ويغفر المظلوم، وتعم المسرةُ الجميع. ولكن الطريف أن مخرجي هذا العرض شاءوا، رغم إرادة روسّيني، أن يقطفوا مزيداً من ضحك الجمهور، فأعادوا "فيورِللا" إلى أهوائها في آخر لحظة، إذ جعلاها تفلت من يد زوجها، ما إن ترى شاباً عابراً بلباس السباحة.