يغادرنا المبدع لكن أعماله الإنسانية تبقى حاضرة على مر الزمن تمنح قيما في انتظار من يجدد روحها ويكمل الرسالة الإنسانية لتصل إلى منتهى بهائها، فبهذه الرؤية نقرأ كل ما وصلنا في الفن والأدب والعلوم بفروعه، ونستطيع أن نحكم على القيم فيها ومدى توافقها مع زمانها وما تبشر به في غير زمانها، نقرأ التاريخ لنتفادى أخطاء الماضي، في الوقت الذي نستفيد من قيمه العالية، وحين نفقد مبدعا فإننا لا نحزن على فراقه فقط، بل نحزن على أنفسنا لأننا سننتظر طويلا حتى يظهر علينا نموذج جديد بروح متجددة تبعث في الحياة حياة!

Ad

كان العام الماضي ومشارف هذا العام قاسيين علينا ونحن نودع عددا من رموز الفن الذين شغلوا الدنيا جمالا وقيما، وأمتعوا الجماهير بأدوار وأداء يترحم عليه معنا كل من جاء بعدهم من الفنانين، ولعلنا لا نقسو على الجيل الذي تربى على أعمال عمالقة الفن وأدوارهم وأدائهم حين نلومهم بأنهم لم يكونوا أمناء ولا أوفياء للفن وقيمه، خصوصا أن بعض الرموز الكبيرة كانت ولا تزال تعيش بيننا.

ولم يسأل أحد من الجيل الجديد عن سر "احتجاب" عدد كبير من هذه الرموز العظيمة رغم كل الإغراءات المادية وسعة الانتشار التي تغذيها الفضائيات بيسر وسهولة، وهم الذين شقوا طريقهم في غياب هذه التقنيات العجيبة وبجهد صادق، وفي سيرهم الذاتية تحديات مجتمعية وحياتية قوية وقاسية اجتازوا امتحانها بنجاح حين نجحوا في إمتاع الجماهير بأعمال تخلو من الإسفاف! أو ربما سألوا أنفسهم ولكنهم تغاضوا عن الجواب الذي لا يحتاج إلى كثير من الجهد.

أما نحن فنعلم أن طريق الإبداع لا يمنحه جمال الوجه ولا الجسد الجميل بقدر ما تمنحه عظمة الموهبة الكامنة،

وآخر الذين افتقدناهم من عمالقة الفن هي السيدة فاتن حمامة سيدة الشاشة العربية، ولست هنا في حاجة للحديث عنها، فهناك من يعرف عن سيرة هذه الفنانة الكبيرة أكثر مما أعرف عن حياتها الفنية، وبالقدر الذي لا يختلف عليه اثنان بأن كل أعمالها كانت ناجحة بلا استثناء منذ بدأت طفلة حين كان عمرها ست سنوات في فيلم "يوم سعيد" مع الفنان الموسيقار محمد عبدالوهاب.

 وكلنا يذكر دورها المميز في "دعاء الكروان 1959" عن قصة عميد الأدب العربي طه حسين، وكذلك فيلم "أريد حلاً 1975" الذي تعرض لقوانين الزواج والطلاق في مصر، والذي بسببه قامت الحكومة المصرية بإلغاء القانون الذي يمنع النساء من تطليق أزواجهن، وفيلم "نهر الحب"، كذلك "سيدة القصر"، و"صراع في الميناء"، و"صراع في الوادي"، و"لا أنام"، والمجال لا يتسع للمرور على كل أفلامها أو مسلسلاتها التلفزيونية، لكننا نؤكد أنها كلها بصمات مميزة.

فحين شاهدنا جنازتها المهيبة عرفنا مدى حب الجماهير لهذه الفنانة وقيمتها رغم غيابها عن الساحة الفنية منذ زمن، وأن وداعها شعر به كل من أحب أفلامها وأدوارها وأمتعته، وأضافت إلى مشاعره الكثير من القيم الإنسانية النبيلة على مدى مشوارها الطويل.

ستبقى سيرة العظماء تمد الأجيال بدروس ومفاهيم وقيم عالية، وتنير لهم الطريق إن أحسنوا الفهم واستوعبوا الدرس، وستبقى صور هؤلاء العمالقة في ذاكرتنا كما هي في ذاكرة التاريخ رائعة وجميلة... رحم الله كل من أعطى هذه الحياة فكرا وجمالا وترك أثرا ينتفع به.

* كاتب فلسطيني - كندا