ما الخطأ في أن تتراجع "جبهة النصرة" عن مواقف وارتباطات سابقة، وأن "تفكَّ" علاقاتها التنظيمية بـ"القاعدة"، وتعلن أنها حركة وطنية سورية، وأن برنامجها هو برنامج الحركة الوطنية السورية الذي عنوانه الحفاظ على وحدة هذا البلد العربي أرضاً وشعباً، والذي يؤكد الاحتكامَ إلى الشعب السوري من خلال انتخابات ديمقراطية وحرة تجمع ولا تفرق، وتعالج كل تشوهات الأربعين سنة الماضية.

Ad

وبالطبع فإنه غير متوقع وربما غير ممكن أنْ تبادر "جبهة النصرة" إلى انعطافة حادة تنقلها من الاتجاه السابق إلى اتجاه جديد ينسجم مع برامج وتوجهات المرحلة المقبلة المنشودة، فالتحولات التاريخية تتم وفقاً لنظرية "خطوة بعد خطوة"، وهنا فإن تصريحات أبو محمد الجولاني لإحدى الفضائيات العربية قد تكون بمثابة الخطوة الأولى التي ستتبعها خطوات لاحقة قريباً أو بعيداً، وهي الخطوات المنتظرة المطلوبة.

ربما أنه معروف أن أهم قاعدة في العمل السياسي هي القائلة: "إذا لم تستطع أنْ تكسب الخصم فعليك تحييده"، ولعل ما تجدر الإشارة إليه إنْ على مستوى التنظيمات والأحزاب وإنْ على مستوى "المنظرين" تحولات جذرية من اتجاه إلى اتجاه آخر، فكثيرون قد تحولوا من اليسار إلى اليمين أو من اليمين إلى اليسار، وهناك تشكيلات ماركسية– لينينية قد تخلت عن ماركسيتها ولينينيتها وأصبحت محافظة، بينما هناك من كان "إخوانياً" وقيادياً في جماعة الإخوان المسلمين وتحوَّل إلى شيوعيٍّ أو بعْثي أو قومي عربي.

إنَّ المشكلة بالنسبة لسورية أنَّ أربعين عاماً من حكم الأسد، الأب والابن، وفوقها أربع سنوات من حكم اعتُبر حكم حزب البعث وأربع سنوات من الحكم الناصري، الذي اشترط لإقامة الجمهورية العربية المتحدة إلغاء الأحزاب ومنع التعددية الحزبية، قد دمَّرت الحياة السياسية في هذا البلد وجعلته يبدأ "من الصفر" عندما حانت اللحظة التاريخية لانفجار ثورة عام 2011.

كانت ثورة مارس (آذار) عام 2011 هبَّة جماهيرية عفوية، وكان من الممكن أنْ تتبلور من خلال هذه الهبَّة تشكيلات وأحزاب سياسية بأطياف الأحزاب السياسية في هذه المنطقة وفي العالم لو لم يبادر هذا النظام الاستبدادي العائلي إلى تحويلها من خلال استخدام العنف المفرط إلى مواجهات مسلحة اتخذت خلال أربع سنوات وأكثر هذه الوضعية التي نراها الآن حيث دفع البطش الطائفي، بمساندة إيران وحزب الله وعشرات التنظيمات والشراذم المذهبية المستوردة من كل أرجاء المعمورة، بعض قطاعات الشعب السوري إلى الانخراط في بعض المنظمات المتطرفة، ومن بينها جبهة النصرة هذه التي حسبت على تنظيم "القاعدة".

إنَّ تجربة السنوات الأربع الماضية، التي هي تجربة مرة بالفعل، قد جعلت عشرات بل مئات التنظيمات تراجع مواقفها ومنعطفاتها السياسية والنظرية، وجعلتها تتقارب وتتباعد على أساس البرنامج الوطني المنشود وبخاصة بعد الإنجازات العسكرية والسياسية التي حققتها المعارضة في الفترة الأخيرة، وأغلب الظن بل يقيناً أن هذا هو ما جعل جبهة النصرة تعيد النظر في مواقفها السابقة، وجعلها تدخل في تحالفات جديدة على أساس برنامج الحد الأدنى، وهنا فإن المفترض أن يكون هناك احتضانٌ لهذا التوجه أولاً من قبل كل القوى السياسية السورية، المسلحة وغير المسلحة، "المعتدلة"، وثانياً من قبل كل القوى العربية والإقليمية المعنية بكل ما يجري في سورية. إنه يجب مواجهة خطوة "النصرة" الأخيرة بالاقتراب منها بمقدار خطوتين، ثم إنه يجب تشجيعها على مواصلة هذا التوجه المستجد بدل التمترس في الخنادق القديمة والاستمرار في محاسبتها واتخاذ مواقف منها على أساس قديم يبدو أنها غدت مستعدة للخروج من دائرته بصورة نهائية، وهذا مع العلم أنها لم ترتكب جرائم كالجرائم التي ارتكبها تنظيم "داعش".