وصل «الهايكو» إلى الغرب عن طريق الأخوين «غونكور» الفرنسيَّين. وقام الغرب بمحاولات تقليد الهايكو، ما يدفع به نحو أن يكون شعراً عالميّاً. ورأى اسكندر حبش في مقدّمته لكتاب الشاعر الياباني «إيسّا» أن هايكو الغرب بعيد من الفلسفة اليابانية ومن التجريد الذي يميّزها: «ما أريد قوله، أنّ هناك شهرة، لنوع من الهايكو مكتوب بالإنكليزيّة والفرنسيّة والفلامنكيّة، على الرّغم من أنّه لا يملك فلسفة اليابان ولا تجريديّتها».
وفي تعريف الهايكو يعلن حبش أنّه «أوّلاً، وقبل كلّ شيء، ممارسة اجتماعيّة». وقد وُلد نتيجة لقاءات شعريّة في قصر السلطة. إذ تنتهي مبارزات الفرسان بأعمال إبداعيّة جماعيّة مثل «الرنغا»، ومنها نشأ الهايكو. ومن اللافت أنّ للشعر في اليابان غاية طبّيّة فهو علاج تتجلّى ماهيّته بين الشعر والسحر: «كانت هذه الأناشيد تستعمل من أجل غايات علاجيّة. أي أنّها تحيلنا إلى العلاقة بين السحر والشعر، في حين كانت حضارات عديدة، من الحضارات التقليديّة، تنادي أنّ كلّ شعر هو نوع من الطبابة». أمّا «إيسّا» فهو الشاعر (1827-1763) المميَّز في تطوير مفاهيم الهايكو، وكان راهباً في معبد «هاي كاي» يعيش حياة الزهد مستغنياً عن شعر رأسه، مطيلاً رحلات حجّه إلى أماكنه المقدّسة، وقد كُتب على شاهدة قبره: «هذا هو إذاً/ مسكني طيلة الحياة؟/ خمس أقدام من الثلج».ثورة العشرينيستهلّ إيسا بوحه بكلام ثائر محتفلاً بثورة عاشها وهو في العشرين من عمره، ليرى ظلّه واصلاً إلى كمال الشكل والصباح ربيعيّاً بامتياز: «ظلّي هو أيضاً/ في أفضل شكل له/ صباح ربيعيّ». أمّا السلام الآتي بعد ألم كبير، فهو ذو نظرة نسريّة تفتح في الأسوار ممرّات للنور: «سلام كبير/ نظرته تثقب السياج»، ويصير إيسا إلى عمر الشيخوخة ليتحوّل النهار كفّاً سخيّة بالدمع على أعين الشيوخ: «حين نشيخ/ حتّى طول النهار/ يصبح مصدراً للدموع». والسّأم يرتفع إلى بعض من أماكن السماء، حين الضّباب يلفّ الدنيا، فترتدي الأرواح سأمها: «آه، يوم ضبابيّ./ بالنسبة إلى الأرواح السماويّة/ سأم بدون شكّ». ويجد إيسا في الثلج أرحاماً «تضيّف» قريته أطفالاً، ليغدو الماء أمومة وأبوّة تجترحان الحياة: «يذوب الثلج،/ القرية بأكملها/ امتلأت بالأطفال».وأمام العندليب يقف الشاعر معجَباً بما فيه من انتماء ثابت إلى جناحيه وحنجرته وكرامته، إذ لا يجعله الأمير يغيّر أغنيته، كما يغيّر مدّاحو البلاطات اتجاهات القصيدة لإرضاء التيجان: «آه. العندليب/ حتى في حضور أمير/ تبقى أغنيته هي نفسها». ولبوذا الكبير حضور دائم، يتعب من جمال زهر الكرز فيفتح باب النّوم: «كأنّه تعب/ من أشجار الكرز المزهرة/ غفا بوذا»، وينسج تحليقاً لألف سماء وسماء، فيصير أنفه غصناً أخضر يحتضن الربيع مزيَّناً بالأجنحة: «آه! بوذا الكبير/ من على أنفه تطير سنونوة». ويبدو إيسا مولعاً باستضافة الطيور على شرفات قصائده، فيراها أطفالاً مجنّحين يلعبون «الغمّيضة» تحت سحابة عطر ترتجلها زهرة الشاي: «في زهر الشاي/ تلعب الغمّيضة/ عصافير الدّوري الصغيرة». ويهزّه دوريّ متوّج باليُتم، فيقترب منه ويدعوه إلى فاكهة المرح: «تعال إذاً معي/ لنمرح قليلاً/ أيّها الدوريّ اليتيم»...ضفدعةومن العصافير ينتقل إيسا إلى الضفادع والفراشات، فالضفدعة تعلن الشيخوخة بنقيقها منذ أن كان نقيق وماء: «آه يا صومعتي/ منذ الأبد،/ تغنّي الضفادع الشيخوخة»، والفراشة ترسم على الهواء فراغاً لا يوصل إلى شيء، كأنها تمحو برفيف جناحيها غايات العالم: «آه! تطير الفراشة، كأن ليس للعالم أيّ هدف». ويستمرّ الشاعر ملتحماً بالطبيعة، مستعيناً بكائناتها لشحن لغته الشعريّة بالطاقات الإيحائيّة، فينظر إلى حافة البئر، حيث الماء الملوّث، المستقيل من الحياة، ويملأ عينيه جمال الزهر الذي تحاصره البشاعة، كأن هذا الجمال وهذه البشاعة يقيمان في وحدة زمانيّة ومكانيّة: «على حافة البئر بالضبط/ المليء بمياه آسنة/ زهور شجرة الخوخ». ويقترب إيسا من التجريد بلغة تحافظ على هدوئها اللافت، ويصبح رنين الصوت راحة تتغلغل في كرز على أغصان مساء: «من رنين الصوت/ نشعر أنّها مرتاحة/ كرزات المساء». وإذا كان لا بدّ من استمرار الصوت، فالسماء تحوّل ما في الليل من كرز نغماً لمن يرغب من أهل الأرض: «كرزات الليل/ موسيقى من السماء/ يسمعها البشر».ويصوّر إيسا الوحدة، دون أن يراها ذات منحى إنساني فحسب، فالإنسان وحيد في اتّساع وكذلك الذبابة، لكن من يدري أين المشبّه وأين المشبّه به في مثل هذه المقارنة؟ «رجل بمفرده/ بمفردها أيضاً، الذبابة،/ في الصالة الكبيرة». ويتضامن شاعر الهايكو المميّز مع كل ضعف، فيراقب بعينين عاطفيّتين البزّاقة تحت المطر منتمياً إلى تشرّدها: «تحت المطر المنهمر/ أين تستطيع إذاً أن ترحل/ هذه البزّاقة المسكينة»، وهو عارف أنّها ذات سعي بطيء إلاّ أنّه جبّار، إذ هي تحترف تسلّق الجبال وتحظى بنشوة الوصول أيضاً على رغم صغرها وضعفها: «بزّاقة صغيرة/ على مهل تتسلّق جبل فوجي!».في «خمس أقدام من الثلج» خبّأ إيسا في صدر الهايكو حياة تحتاج إلى لغة تحتضنها وإلى جمال يعزّي شموس نهاراتها وأقمار لياليها.هواء الخريف يكتب إيسا الشعر وهو تارك في روحه ساحة لهواء الخريف حيث تختلط النسمات بالأفكار، وتتشارك الطبيعة في صناعة القصيدة: «الريح الخريفيّة/ تتحرّك في روح إيسا/ كما الأفكار». وما هواء الخريف سوى خبير عتيق في الوصول إلى الورد الأحمر ولو بيدَين يستعمرهما اللون الأصفر: «الريح الخريفيّة / آه كم تعشق/ قطف الورود الحمراء». وللجنّة طريق، هو أيضاً منتسب إلى ماهيّة الطبيعة، ليتحوّل الندى صلاة ترفع من يحسن الاتحاد بالوجود، ولاسيّما بعناصر الطبيعة، إلى الله: «عبر الندى الأبيض/ يمكن أن نرى طريق الجنّة». وقد تكون ذروة الذوبان في الطبيعة أن يصير الإنسان إلى اللاشيء، أن يتجرّد من ثقله الوجودي، ويشعر بخفة قلبه في قفصه الصدري مكتفياً بما يهديه إليه الهواء من انتعاش: «لا شيء / كم أنّ قلبي خفيف/ كم أنّ الهواء منعش». ولا يجد إيسا شفاء العالم إلاّ بالبرق الذي يتحوّل علاجاً نورانياً: «صواعق ورعود/ عند كل برق/ يشفى العالم». وقد تكون العبوديّة الداء الأكبر تحت الشمس، ليغدو عصفور القفص أسير قفصه وعينيه في آن واحد، حين يرى الحياة تبتسم بين جناحَيْ فراشة طليقة: «بأيّ نظرة حاسدة/ عصفور القفص/ يلاحق بعينيه فراشة»...
توابل - ثقافات
«إيسا» في «خمس أقدام من الثلج»...
17-03-2015