في ضوء نتائج هذه الانتخابات التي أُعلنت أمس الأول (الاثنين) وفاز فيها حزب «نداء تونس»، بقيادة السياسي المخضرم الباجي قائد السبسي، على «حركة النهضة» بقيادة راشد الغنوشي، الذي بدأ ناصرياً واشتراكياً وحْدوياً وانتهى «إخوانياً»، يمكن القول إن هذا البلد الذي انطلقت منه شرارة «الربيع العربي» هو أول بلد من بلدان هذا الربيع أعطى ثماراً غير «زقومية» ورسَّخ تجربة ديمقراطية واعدة يجب أنْ تكون المثل الذي ينبغي أنْ يحتذى في المنطقة كلها... في مشرق الوطن العربي ومغربه.
وردّاً على السؤال الذي لابد أنه تردد كثيراً بعد نجاح هذه التجربة التونسية كل هذا النجاح الذي أثبت أنه بالإمكان أن يضع العرب كلهم في كل أقطارهم أقدامهم على طريق الدول المتقدمة «الناجحة»... وهو لماذا يا ترى أعطى «الربيع العربي» في تونس وروداً وزهوراً وثماراً طيبة، بينما أعطى في دول أخرى عواصف مدمرة وأسال دماءً زكية، وبخاصة في سورية، التي كان من المفترض أن تنجح في التجربة، وألا تَغرق في هذا المستنقع الآسن الذي يبدو أنه من الصعب انتشالها منه؟!لقد عرفت سورية الديمقراطية قبل نحو عشرة أعوام من تحرر تونس، التي تحررت عملياً عام 1956، والتي استناداً إلى تاريخٍ طويل يقول البعض إنه بدأ بالمصلح الكبير والمجاهد الفذ عبدالعزيز الثعالبي وانتهى بالحبيب بورقيبة، الذي يجب الاعتراف بأنه كان أحد رموز القرن العشرين مثله مثل مصطفى كمال (أتاتورك)، وشارك فيه، أي في هذا التاريخ، صالح بن يوسف الذي اغتيل في فرانكفورت بألمانيا عام 1961 ومحمد الفاضل بن عاشور الذي ترأس الاتحاد العام التونسي للشغل لفترة طويلة، والذي شارك في تأسيس الحزب الحر الدستوري الذي قاد عملية الاستقلال وعملية الإصلاح التونسية التي هي حقيقية وفعلية.لم تعرف تونس الانقلابات العسكرية إلا مرة واحدة في تاريخها، وهذا كان في نوفمبر 1987 عندما دبَّر زين العابدين بن علي «مؤامرة» لإقصاء الحبيب بورقيبة وأزال «تمثاله» من أهم شارع في العاصمة كان يحمل اسمه، كما أزال كل ما يُذكِّر به في البلاد كلها، بالإضافة إلى إقصاء المربي الفاضل رئيس الوزراء الأسبق محمد مزالي وإجباره على الفرار ليلاً في اتجاه الجزائر، ومنها إلى باريس حيث توفي بعد عدة أعوام والحسرة تملأ قلبه.أما سورية، الحبيبة فعلاً وقلب العروبة النابض حقاً، فإن مسيرتها الديمقراطية قد تعثرت منذ أول خطوة على بداية طريق كان واعداً عندما وقع أول انقلاب عسكري عام 1949، الذي هو انقلاب حسني الزعيم الذي وصفه فارس الخوري بأنه «أكبر كارثة حلَّت بالبلاد منذ حكم تركيا الفتاة» ثم بعد ذلك «كرَّت السبحة» بانقلاب سامي الحناوي، ثم انقلابَي أديب الشيشكلي الأول والثاني.. ثم انقلاب الضباط الوحدويين الذين أخذوا البلاد إلى الوحدة مع مصر، ثم انقلاب الانفصال وانقلاب عام 1963 وانقلاب فبراير عام 1966 وانقلاب حافظ الأسد عام 1970... الذي أوصل هذا البلد إلى كل هذا الدمار وإلى كل هذه الويلات والخراب والتمزق.وحقيقةً، إذا أردنا وضع النقاط على الحروف، فإنَّ الانتصار الأخير الذي تحقق في تونس هو انتصار لـ»إصلاحات» الحبيب بورقيبة التي حققت ثورة اجتماعية هائلة، أهمها حقوق المرأة والإصلاح الفلاحي (الزراعي) والإصلاح التعليمي ونظافة اليد، حيث توفي هذا الرجل الذي حكم أكثر من ثلاثين عاماً، وهو لا يملك إلا قبره في مدينة «المونستير»، بينما كان ابنه الحبيب الابن لا يملك إلا شقة صغيرة مرهونة لأحد البنوك في تونس القديمة... وهذا هو ما جعل البلد يصمد أمام «تسونامي» حركات الإسلام السياسي التي اجتاحت المنطقة، ويحقق هذا النجاح العظيم الذي حققه.إن الذي فاز في تونس هو المرأة المتحررة من الإرث الاجتماعي الثقيل، وهو الدولة «المدنية» وهو الليبرالية السياسية والاجتماعية وهو التعددية والتداول على السلطة، وهو الديمقراطية الفعلية وهو الإرث الإصلاحي الذي تركه الحبيب بورقيبة لشعبه... وهو حزب «نداء تونس» والباجي قائد السبسي، وبالطبع هو القوى والتيارات السياسية اليسارية والقومية... وهو أيضاً حركة «النهضة» التي صمدت أمام ضغط الإخوان المسلمين الذين أرادوها مثلهم حركة إقصائية ترفض التعددية ولا تقبل تداول السلطة، وتتمسك بقيم بالية لا علاقة لها بالإسلام والمسلمين... لقد انهزم المال السياسي أمام إصلاح الحبيب بورقيبة.
أخر كلام
انتصار إرث بورقيبة على الإسلام السياسي
29-10-2014