خلال العقد الماضي، خدع نظام بشار الأسد واشنطن وجعلها تعتقد أنه سيعمد إلى تطبيق إصلاحات، إلا أنه لم يفعل ذلك، وقد أدى غياب الإصلاحات المؤسساتية والاقتصادية إلى اندلاع الثورة والحرب الأهلية في سورية.
من المشين إذاً أن يعمد الأسد اليوم إلى خداع واشنطن للمرة الثانية، معتبراً أنه أهون الشرين مقارنةً مع تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش)، وهو ادعاء كان له تأثير على وزير الخارجية الأميركية جون كيري، الذي يدعو حالياً إلى عقد مفاوضات مع النظام، وفي الواقع يوازي نظام الأسد "داعش" شراً، وبالتالي، إذا وقعت واشنطن مجدداً في فخ الأسد وخداعاته، فأي عواقب ستترتب على ذلك؟لماذا قد يرغب أي طرف في وضع ثقته بنظام لم يخذل شعبه فحسب، بل خدع قادة الغرب بشكل سافر ليس مرة واحدة، بل مرتين؟لم تشكل "إصلاحات" الأسد سوى غطاء هش لتفاقم الفساد، إذ لم تكن لديه نية فعلية لتحسين الظروف الاقتصادية أو ظروف المعيشة، فلم يقتصر الخداع على الأسرة الدولية فحسب، بل انطلى ذلك أيضاً على الكثير من السوريين الذين صدّقوا أكاذيب الأسد، ولكن "طبيب العيون" لم يتمتع بأي بعد نظر، إذ نزل المتظاهرون إلى شوارع دمشق في فبراير عام ٢٠١١، هاتفين: "لن نقبل بإذلال الشعب السوري!". لقد كان أربعون في المئة من السوريين يعيشون دون خط الفقر، وأكثر من خمسة وعشرين في المئة من الشباب يعانون البطالة. وبالتالي، كان العديد من السوريين يهاجرون إلى الدول المجاورة بحثاً عن العمل وعن حياة أفضل.وفي ظل بروز تنظيم "الدولة الإسلامية" ووحشيته الفاضحة، توقفت الولايات المتحدة عن المناداة بإطاحة الأسد وأصبحت اليوم تعمل مع الأسد على "هزيمة داعش"، الأمر الذي يشكل قمة التضليل، فمنذ اندلاع الثورة، صوّر النظام المتظاهرين اللاعنفيين على أنهم إرهابيون، رغم أنهم لم يكونوا كذلك، وكان لا بد للأسد من خلق بيئة حاضنة، من شأنها أن تؤدي إلى صعود المزيد من المتطرفين من أجل تبرير ادعاءاته و"إثبات" أن الخيار ينحسر في النهاية بينه وبين "الإرهابيين"، وكان الأسد عراب تنظيم "الدولة الإسلامية" وجهاديين آخرين، وقد صدقت توقعات النظام بأن واشنطن ستسقط في المكيدة التي نصبها لها.ويُعَد النظام أحد الأسباب الرئيسة لتنامي المتطرفين في مرحلة ما بعد الثورة، فصحيح أن هناك عناصر من بين الثوار الرئيسيين لم تردع تصاعد الراديكاليين، ويعود ذلك جزئياً إلى القيادة التي تفتقر لبعد النظر والاستقطاب الإسلامي المشترك، إلا أن الأسد هو من أعاد أعدادا كبيرة من المتطرفين إلى أرض المعركة، بعد أن أطلق سراح العديد من العناصر المتطرفة من سجن صيدنايا في منتصف عام ٢٠١١.لقد اتُهم تسعون في المئة من هؤلاء السجناء بالمحاربة سابقاً في العراق، وشكل قادة بارزون من "جبهة النصرة" و"أنصار الشام" و"جيش الإسلام" جزءاً من هذا "العفو"، واعتُبرت أفعالهم اللاحقة النتيجة المنطقية لعملية تبني التطرف الذي حدث خلال العقد السابق، نتيجة لطريقة تعامل النظام مع السجناء، فبالإضافة إلى التعذيب الجسدي الموثق إلى حد كبير، أساء النظام معاملة السجناء ذهنياً ونفسياً من خلال حرق القرآن والتبول والدوس عليه. بالإضافة إلى ذلك، كان السجن يقع في مدينة مسيحية اشتُهرت باحتفالاتها الدينية وحفلاتها الواسعة النطاق، وقد أوجدت هذه الإجراءات المنسقة بدقة الأرضية الممهِدة لاحتضان التطرف.وهذا النوع من التلاعب ليس وليد اللحظة، فقد ساهم النظام في تسهيل أمور وتدريب أعضاء من تنظيم "القاعدة في العراق" خلال العقد الماضي، بالإضافة إلى تمكين مجموعة "فتح الإسلام" في لبنان، وبالتالي، فبعد إطلاق سراح هؤلاء المتطرفين في عام ٢٠١١، انصب تركيز جيش الأسد بشكل أساسي على محاربة الثوار المركزيين في حين اكتفى باستهداف المتطرفين من حين لآخر، وذلك لأن النظام كان يعلم أن الجهاديين سيجابهون الثوار أيضاً، وبذلك يساعدون النظام بطريقة غير مباشرة. وعاد هذا الواقع بمنفعة مشتركة على الطرفين، حتى لو لم يكن هناك تنسيق بينهما. ولهذا السبب، أصبح بإمكان نظام الأسد أن يدّعي الآن بأنه يحارب الإرهابيين، حيث إن مجموعة المعتدلين قد انحسرت بفعل انقضاض النظام والجهاديين عليها.وقد خرجت هذه السياسة عن سيطرة النظام بشكل فاق توقعاته، من خلال استحكام الجهاديين وسيطرتهم على ثلاث محافظات ("جبهة النصرة" في إدلب و"داعش" في الرقة ودير الزور). حتى مع مساندة "الحرس الثوري الإيراني" و"حزب الله" وغيرهما، لا يستطيع الأسد صد هذه الجماعات نظراً لضعف قدراته، مما يدل على عدم قدرة النظام على بسط سيادته الفعلية على سورية.وعلى الصعيد المعنوي، لا تقل جرائم النظام سوءاً عن جرائم الجهاديين، ولكن الفرق يكمن في عدم التفاخر بها عبر أشرطة الفيديو أو الصور كما يفعل تنظيم "داعش"، ومع ذلك، يتعمد النظام على تسريب أشرطة فيديو تُظهر عمليات التعذيب وذلك لزرع الخوف لدى السكان المحليين، وهناك أدلة وافرة تتعلق بالجرائم التي ارتكبها الأسد بحق الإنسانية منذ عام ٢٠١١، فقد كانت توجَّه أوامر للقناصين المتمركزين على أسطح المنازل لكي يصيبوا الأطفال في أعينهم ورؤوسهم. وقد اندلعت التظاهرات في درعا إثر اعتقال خمسة عشر ولداً صغيراً وتعذيبهم على خلفية تدوينهم شعارات عن الحرية مستوحاة من أحداث مصر على جدران مدرستهم، وكان عاطف نجيب، رئيس فرع الأمن السياسي في محافظة درعا وابن خالة الأسد، يتلذذ بسماع صراخ الأطفال وهم يتعرضون للتعذيب خلال توقيفهم، إذ كانت تُسحب أظافرهم وتُحرق أجسادهم ووجوههم بالسجائر.وثمة اعتبارات جيوستراتيجية قد تلحق ضرراً بالولايات المتحدة إذا وافقت على أهداف إيران في سورية، ووقعت في فخها، فالانضمام إلى صف إيران لمحاربة تنظيم "الدولة الإسلامية" لن يؤدي إلى تقارب واعد بين الدولتين، إذ إن لدى القيادة الإيرانية أهدافا قائمة على الهيمنة والإمبريالية بهدف تصدير إيديولوجيتها الثورية، ولن يناقض ذلك مصالح حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة فحسب، بل سيولّد أيضاً على الأرجح واقعاً شبيهاً بالحرب الباردة بين إيران والولايات المتحدة، وخصوصا إذا امتلكت إيران أسلحة نووية.إن الوقوف صفاً واحداً مع إيران قد يؤدي أيضاً إلى تعزيز نفوذ الجهاديين، فمنذ أربعة عشر عاماً في ١١ سبتمبر، كان عدد أعضاء تنظيم "القاعدة" لا يتجاوز المئتي عضو، أما اليوم، فقد وصلت أعداد الجهاديين في العالم إلى مئات الآلاف في جميع أنحاء العالم، وانطلاقاً من الاعتقاد السائد بأن حرباً دينية إقليمية تلوح في الأفق، فالأسئلة التي تطرح نفسها هي: كم سيبلغ عدد الجهاديين السنّة بعد أربعة عشر عاماً؟ وكم سيبلغ عدد الجهاديين الشيعة في ذلك الحين أيضاً؟ وأي وضع أمني سينتج عن ذلك ليس فقط في العالم العربي، الذي ما زال يعاني مشاكل اقتصادية، وديموغرافية، وقضايا حكم كبرى، ولكن أيضاً في الغرب؟ وتُعتبر هذه أسوأ السيناريوهات، مع أنها لن تكون مفاجِئة إذا وقعت الولايات المتحدة مجدداً في مصيدة الأسد، على الولايات المتحدة ألا تدخل في لعبة التحيزات: فسجلها الذي يحمل العديد من الخدع التي قام بها نظام الأسد خلال العقد الأخير لا يدعو للتفاؤل، فالأسد لا يمثل الحل؛ لذا فلتفكر الولايات المتحدة مرتين قبل أن تُخدع مرتين!* آيرون واي زيلين | Aaron Y Zelin
مقالات
الأسد يخدع أميركا مجدداً
31-03-2015