تتعدَّد تسميات الموت في اللغة العربية، فهو أبيض عندما تزول الحياة عن الكائن طبيعياً، وأحمر إن جاء الرحيلُ قتلاً، وأسود في حال الخنق، وزؤام عند حضور عنصري المفاجأة والسرعة.

Ad

كان 2014 عام الموت بأشكاله كافة. وهو إن جاء أبيض، أو بعد صراع مع داء، على من رحل من المثقفين والفنانين اللبنانيين أخيراً، فإنه أتى لا ريب أحمر وأسود وزؤاماً على سوريين وعراقيين ولبنانيين وفلسطينيين، أطفالاً ونساء وشباباً ومسنين، وغيرهم كثيرين. ومع كل موت، رسم {داعش} بسكينه منهجية كتبٍ كثيرة تحدَّثت عن تنظيم الدولة الإسلامية وفاضت في شرح رمزية النحر وأصوله وقواعده. وأسَّس نظام الأسد بدوره لموسوعات وجداريات تحكي القتل الجماعي والتعذيب والترهيب.

لا مجال هنا لكتب ولا لموسوعات وجداريات. تسعنا الإشارة إلى رموز ثقافية من لبنان غادرتنا، فيما بقي نتاجها حياً بلا شك.

في فبراير الماضي، أُعلن عن رحيل الشاعر الغنائي جوزف حرب (2014-1944). هو صاحبُ {المحبرة} و{شجرة الأكاسيا} الذي أشتهر بقصائد غنتها السيدة فيروز وغيرها من فنانين. كان حرب اسماً في عالم القصيدة العامية والموزونة، وعلى الرغم من قربه من بعض الشخصيات السياسيَّة في سورية ولبنان، فإنه كان يميل إلى العزلة، وبدا كأنه رحل بصمتٍ. حتى إن المقربين منه لم يقدموا ندوةً عنه بعد وفاته.

لم تمضِ أيامٌ على رحيل حرب حتى أدركه زميله أنسي الحاج (2014-1937)، كأنهما على موعد مع الموت. الحاج صاحب دواوين {لن} و{الرأس المقطوع} و{ماضي الأيام الآتية} وكتاب {خواتم}، والحاج ابن الصحافي لويس الحاج وهو اشتهر بكتابة قصيدة النثر وتأثَّر بالشاعر فؤاد سليمان، وشارك الى جانب الشعراء الرواد (يوسف الخال، أدونيس، شوقي أبي شقرا...) في تأسيس مجلة {شعر} التي كانت منبر شعراء الحداثة العربية من مختلف الأقطار العربية المشرقية، خصوصاً سورية ولبنان وفلسطين والعراق، إلى جانب اهتمامها بترجمة الشعر الغربي إلى العربية. كانت المقابل الثقافي لمجلة {الآداب} العربية التي قادها سهيل إدريس ومجموعة من العروبيين، والتي يحبِّذ أركانها قصيدة التفعيلة.

بين جوزف حرب وأنسي الحاج صلة وصل فيروزية. الأول غنَّت له النجمة وأحبَّت كلمات قصائده، وكان الثاني أحد أكثر المدافعين عن مسيرتها وكتب عشرات المقالات النارية التي تمجّد {أيقونة الصوت} كما كان يسميها. لكن فيروز لم تغنِ له.

كذلك رحل العلامة السيِّد هاني فحص (1946-2014)، رجل الدين الشيعي المعتدل الباحث عن الحوار والميَّال إلى المجتمع المدني والمحب للأدب، والذي ربطته أواصر صداقة مع الاتجاهات السياسيَّة كافة في لبنان، وانتقد {حزب الله} في عقر داره ضاحية بيروت الجنوبية. وهو كان أحد أبرز المنظِّرين في مجال مقاربة الإسلام إلى مواضيع الحداثة المطروحة.

توفِّي أيضاً الشاعر والكاتب الساهر جورج جرداق (1933-2014) الذي كنَّا نستمع إليه مبتهجين عبر الإذاعة ضمن برنامجه الصباحيّ {على طريقتي}، حيث السخريّة ساخنة ومحببّة في آن وتطاول مختلف حقول الحياة. قرأناه ساهراً في قصائده، وساخراً في كتاباته في مجلة {الشبكة} ومنابر أخرى، وعرفناه رومنسياً في الأغنية الشهيرة {هذه ليلتي} التي لحَّنها الموسيقار محمد عبد الوهاب وغنَّتها أم كلثوم، وجاء فيها: {سوف تلهو بنا الحياة وتسخر... فتعالَ أحبّك الآن أكثر}. وهو الذي اشتهر بأنه المسيحي الذي قدَّم دراسات عدة عن الإمام علي بن أبي طالب، كانت له أعمالٌ وبصمات مع كبار نسجَ معهم علاقات طيبّة، أبرزهم: فيروز، والأخوان الرحباني، ووديع الصافي، ونصري شمس الدين، ورياض السنباطي، وغيرهم من رعيل صنع السجلّ الفنيّ الذهبّي في عالمنا العربي.

المفكر اللبناني العروبي منح الصلح توفي أيضاً، وكان تميَّز بأدواره السياسية بعيداً من الأضواء أو من خلال الجلوس في المقاهي، والمشاركة في ندوات وتأسيس جميعات ومنتديات ثقافية.

صباح وعقل

المفاجئ كان التقارب في رحيل كلٍ من الشحرورة صباح

(2014-1927) والعملاق سعيد عقل (2014-1912)، كأنهما كانا على موعد واحد مع الموت. سنوات عمرهما الكثيرة لم تكن كافيةً لقتل عنصر المباغتة لدى الناس عند الإعلان عن وفاتهما. ربما كان على طيف الموت أن يمرّ عليهما مرور الكرام، ثم يرحل ويبقيان.

طالما أرادوها أن تموت من خلال الإشاعات الصحفية. الصبوحة لم تسلم من توقعات الفلكيين و{المشعوذين} الذين توقعوا موتَها مع انصرام كل عام. عاشت {الأسطورة} تبحث عن الحياة والفرح حتى آخر نفس. الفنانة الكبيرة التي انطلقت من وادي شحرور (جبل لبنان) في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، كانت مسيرتها من مسيرة لبنان الاستقلال، ولكنها في مشوراها الأول انطلقت من مصر حيث صوَّرت عشرات الأفلام وأطلقت مئات الأغاني، كانت نموذج التواصل بين مصر ولبنان، واشتهرت بتقديمها ألواناً متنوعة من الكلمات والألحان، إلى جانب شهرتها بفساتينها مختلفة التصاميم والألون.

أما الشاعر سعيد عقل فيقف شاهداً على القرن العشرين، على لبنان الكبير والاستقلال والحرب والحلم، مميزاً بقصيدته الكلاسيكيَّة. هو لم يهتم يوماً بتحولات عدة طرأت على أجواء الشعر في العالم، كان مقتنعاً بلغته وأفكاره وذائقته التي طالما تغذّت من منابت الشعر العباسيّ والقرآن و{نهج البلاغة} وعيون المصنّفات الأدبية التراثيّة، ناهيك بالشعر الفرنسي الكلاسيكي. كان أحد أعظم الشعراء في العالم العربي، وقد لُقب بالشاعر الصغير لأنه كان قائلَ شِعرٍ منذ طفولته.

غنَّى من كلماته متباهين كبار المغنين اللبنانيين، أبرزهم فيروز التي شَدَت {مرَّ بي} من ألحان محمد عبد الوهاب، ومن ألحان الأخوين رحباني قصائد عدة أشهرها ما يتغنى بالقدس والشام ومكة المكرمة، لعل أشهرها {زهرة المدائن} و{سيف فليشهر} (القدس في البال).

رحل عقل وكان لرحيله وقعٌ خاصٌ، هو الشاعر الذي يشبه لبنان، كأن برحيله فقد لبنان {كاريزماه}.

ذهبت صباح إلى مثوى لن تلاحقها إليه أقلام الصحافة لتكتب عن حال عيشها، وبتباكى بعضها زيفاً على {فقر} النجمة! وعاد الشاعر إلى أحضان زحلة التي شبَّ فيها وتغنى بها، من دون أن يلتفت إلى كلام كثير طاف إلى السطح فور نبأ الرحيل معيداً إلى واجهة الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بضعة تصاريح للشاعر، وزاعماً أنها دليل على عمالة عقل لإسرائيل.

أسماء أخرى رحلت هذا العام في لبنان، فلم يمضِ يومٌ على غياب صباح حتى أغمضت الفنانة اللبنانية لارا كيروز (الملقبة بنهاوند) عينيها إلى الأبد، عن عمر يناهز 81 عاماً. نهاوند هي لعذوبة صوتها. بدأت مشوارها الفني في فرقة الإذاعة الموسيقية في بيروت، ومن ثم بدأت بالتنقل بين مسارح بيروت وعمان ودمشق، محققةً شهرةً واسعةً في بغداد في بداية الخمسينيات. واشتهرت الفنانة بأغنية {يا فجر لما تطل}، بالإضافة إلى قصيدة {أين با ليل}، التي ذُكر أنها من ألحان نهاوند، وكان آخر ظهور فني لها قبل سنوات في مهرجان جييل، شمال بيروت، حيث قدَّمت أغانيها القديمة بتوزيع موسيقي جديد.

في 2014، غادرنا أيضاً الموسيقي اللبناني المبدع وجدي شيا قبل أن يكمل مشواره الفني في المسرح والموسيقى. وحزن محبو الشعر في لبنان لرحيل الشاعر الفلسطيني سميح القاسم. أمّا عالمياً، فكان مؤثراً رحيل الكاتب الكبير غابرييل غارسيا ماركيز صاحب {خريف البطريرك} و{مئة عام من العزلة}، ونجم أسلوب {الواقعية السحرية}.

رحل هؤلاء ورحلت تلكُنَّ، وتهامس البعض أن ثمةَ أسماءَ كبيرة لم ترحلْ بعد. كأننا صرنا ننتظرُ الموتَ لنكتب عنه، لنهتم برحيل الكبار في لحظة موتهم فحسب، لنكرِّم بعضهم في جنازته، ونخذل البعض الآخر، لننسى تيك على وجه السرعة بعد وفاتها ولا نواكب رحيل تلك حتى بندوة، لنتغنَّى بذاك ونغالي، ونحتفل بذلك من دون أن نعرفه، ونشتم شاعراً كبيراً فيما قلمنا عاجز عن نظمِ شطرين.