فجر يوم جديد: {بتوقيت القاهرة}
لا أستطيع أن أصدق النتيجة التي وصل إليها المخرج الشاب أمير رمسيس في فيلمه الجديد «بتوقيت القاهرة»، فأنا متابع جيد لمسيرته، وأزعم أنني شاهدت أفلامه الروائية الطويلة كافة، بداية بـ{آخر الدنيا» (2006)، مروراً بـ{كشف حساب» (2007) وانتهاء بـ{ورقة شفرة» (2008)، بالإضافة إلى فيلميه التسجيليين «عن يهود مصر» (2012) و{عن يهود مصر: نهاية رحلة» (2014). من ثم، لا أبالغ عندما أتوقف عند ما تحقق وأرى فيه طفرة كبيرة، وكأنه ولد من جديد أو تخرج للتو في قسم الإخراج في المعهد العالي للسينما! خاض «رمسيس» مغامرة مثيرة في فيلم «بتوقيت القاهرة»، بدأها بتصديه لمهمة كتابة السيناريو ثم نجاحه في إقناع النجم الكبير نور الشريف ببطولة الفيلم، والعودة إلى الشاشة الكبيرة بعد غياب دام سبع سنوات، مذ مشاركته في بطولة فيلمي «مسجون ترانزيت» و{ليلة البيبي دول» (2008). وتابعها بتوصله إلى معادلة رائعة مزج فيها بين الكبار: نور الشريف، ميرفت أمين وسمير صبري، وجيل الشباب: شريف رمزي، دُرة، آيتن عامر وكريم قاسم، فضلاً عن حيوية الفيلم، وتدفق أحداثه، وطرافة حواره. بل يمكنني القول إن الفيلم أظهر روحاً ساخرة لم أكن أدري أن «رمسيس» يملكها، وانعكست على شخصية «يحيى شكري مراد» (نور الشريف) الأب المصاب بمرض ألزهايمر، والمُهدد بالموت، ويعاني قسوة ابنه المتطرف «مراد» (عابد عناني)، الذي لم يغفر له أنه تزوج مسيحية، أمه التي غيبها الموت، ولا يتوقف عن إهانته، على عكس الابنة «أميرة» (درة)، التي تكن له حباً جارفاً، وتتعاطف مع رغبته في البحث عن صاحبة الصورة التي أحبها يوماً، ويود لو تذكرها!
يهدي المخرج الفيلم إلى صوت الرقيقة شادية، ويذخر «التتر» بمفردات مثل تروس الساعة التي تُشير إلى الزمن، والسحب التي تكاد تغطي وجه القمر، وتشير إلى مضمون ورسالة الفيلم، الذي يقوم على أربعة محاور، أولها مأساة «يحيى شكري مراد»، وثانيها العلاقة العاطفية المبتسرة بين العاشقين «سلمى» (آيتن عامر) و{وائل» (كريم قاسم)، وثالثها أزمة الشاب «حازم» (شريف رمزي) الذي يتاجر بالمخدرات. أما المحور الرابع فيتسم بطرافة لا تخلو من مغزى يحمل كثيراً من الدلالات، حيث تمتثل النجمة المعتزلة «ليلى السماحي» (ميرفت أمين) لشرط المتشدد الذي أراد الاقتران بها، وتطالب النجم المعتزل «سامح» (سمير صبري)، الذي كانت تشكل معه ثنائياً فنياً، وتزوجت منه في أكثر من فيلم، بالطلاق امتثالاً للفتوى التي زعم مُطلقها أن «زواج الأفلام والمسلسلات والمسرحيات شرعي، ويتوافر فيه شرط الإشهار ما دام تم في حضور شهود هم الجمهور»!تكتمل السخرية اللاذعة بالكشف عن اعتناق «سامح كمال ميخائيل» الديانة المسيحية، ومع هذا تُصر «ليلى» على طلب الطلاق (!). وفي مونتاج متواز (وسام الليثي) يُعد سمة للفيلم، يهجر «يحيى شكري مراد» شقته في الإسكندرية بعد معايرة ابنه له بأنه مخبول، ويرحل إلى القاهرة ومعه ساعة الحائط التي أهدتها له زوجته الراحلة، ليبدأ رحلة البحث عن صاحبة الصورة. وفي الطريق، تتعطل سيارته فيستقل سيارة الديلر «حازم»، الذي يستثمر شيخوخته للتخفي من ملاحقة الأجهزة الأمنية!باستثناء تكرار بعض المواقف، وربما لغة الحوار في مشاهد جمعت الحبيبين «سلمى» و{وائل» في الشقة، والمثالية وعدم الواقعية في إصرار الفتاة على أن تكون طاهرة وعفيفة وشريفة تُحرم على الفتى أن يقبلها أو يلمسها، فضلاً عن الاختيار غير المناسب لآيتن عامر في شخصية «سلمى»، يُبهرنا نور الشريف بخفة ظله، وميله إلى الأداء السهل الممتنع، وامتلاكه ناصية الشخصية الدرامية. وجاء شعره الأشعث، والبطاقة التي وضعت على صدره لتُسهل مهمة من يعثر عليه، لتضفي مصداقية كبيرة على الشخصية، وهي المصداقية التي تترك أثارها على مواقف وأداء وعناصر الفيلم كالتصوير (محمد عبد الرءوف) والموسيقى (خالد حماد) والديكور (أحمد شاكر)، بعدما أحكم المخرج أمير رمسيس قبضته على العمل، وقدَّم شخصيات من لحم ودم مثلما نسج مشاهد تفيض بالكوميديا والشاعرية والعذوبة (إنكار الأب ابنته حباً فيها وخوفاً عليها).في فيلم «بتوقيت القاهرة»، تتلاقى الأقدار بشكل يبدو متعسفاً أو يتسم بقدر من «الميلودراما»، حيث يتعامل «الديلر» «حازم» مع النجم المعتزل «سامح» فيجد «يحيى» نفسه وجهاً لوجه مع «ليلى» جارته التي أحبها في شبابه بينما يتضح أن «سلمى» هي ابنة «ليلى» التي أرادت التدثر بالفتوى المزعومة. ومع التناقضات الذهنية والأيديولوجية التي يرصدها الفيلم، يؤكد المخرج على أهمية التعددية، ويفضح عقوق الأبناء، والنظرة السلبية تجاه الفن والمشتغلين به، ويتعاطف مع النجوم الذين انسحبت عنهم الأضواء، كما يدعو إلى التشبث بالمشاعر كسبيل لقهر الأمراض.