تستهلّ الشاعرة حنان رحيمي جديدها الشعري «جنى المطر»، بإهداء إلى ابنتها «ريتا» التي تضيء وردة الألم على شرفة رحيمي: «عشرون ربيعاً يا صغيرتي مرّت... / وكرسيّك النقّال ما زال مكانه / لم يجلب لقدميك الحافيتين / حذاء من عشب ومكان»...

Ad

    أمّا مقدّمة الديوان فهي للشاعر نعيم تلحوق. وفيها يعلن تاريخا ًمتوَّجاً بالشوك للشاعرة: «امرأة أرهقها النضال، أمّ أرهقها الشرع، زوجة أحزنها الغياب، مواطنة أدمتها آلام الوطن»...

    تبدأ رحيمي إبحارها مع الملح، ليس ذاك الذي يذوب مختبئاً في صدر الماء، إنّما الملح المنهمر من عيني رَجُل، ما إن صار على شاطئ القصيدة حتى تحوّلت عيناه عينين توراتيّتين تنسجان الملح. خذني على قدر حلمي / فحين أعلنتك صدى لحروفي / أمطر الملح من عينيك/ حين أردتُكَ طائرة ورقي / نامت الريح». فكم هي ساديّة تلك الريح التي تخذل طائرة ورق، وكم هو القَدَر قادر على استحضار النهايات قبل أن تقول البدايات كلمتها الأولى.

    وتواصل رحيمي تولية وجهها قِبلة الحبّ، شاهرة عجزها عن تقبّل رجل ونهار في وقت واحد: «كأنّما لديّ مشكلة في الرؤيا / لا أحتمل ضوءَين: / أنت والنهار» وإذا كانت وليمة الحبّ تحتاج ما يملأ أوانيها، فلا مانع من الوقوف تحت قنطرة الحلم الذي له رغيف وسنابل: «تأخرت عن موعدها سنابل اللقاء / تعال نتقاسم رغيف الحلم».

حب شامل

والحبّ عند رحيمي يجتاز الرجل الحبيب، ويحلو له الذوبان في تراب الوطن، وفي وجوه الرفاق، فيتّسع القلم ليمتدّ سماء ويمسي الحبر مطراً موشوماً بالأحمر المؤلم، حيث الحبّ لا يكون بعد منتصف الليل تحت مصابيح الطرقات العاشقة، إنّما بعد منتصف الموت: «حين أكتبك يصبح القلم سماء / والحبر مطرً أحمر / إنّه الحبّ / بعد منتصف الموت يا رفيقي». وتستطيع رحيمي أن تقول للرجل: «كن هواءً» فيكون، كي تتنفسّه وتقنعه بأنّ المسافات لا تقوى عليها: «إبقَ في الجوار / لا تبتعد / تعلم أنّي أتنفّسك».

    وتتقن رحيمي فنّ الانفتاح فتدعو الإنسان إلى الاقتراب من أخيه الإنسان لأنّ البشر يشتركون في كلّ ما يشكّل إنسانيّتهم: «دمي أحمر كدمك/ ولدتك أمّك كما ولدتني أمّي/ شهقة الولادة، الموت / واحدة من فمك وفمي». والطبيعة نفسها تساوي بين الآدميّين ذهب شمس وغناء عصافير: «هل رأيت الشمس يوماً / تشرق عليك بعيداً عنّي/ أو سمعت العصافير لك وحدك»... ولا يفوت الشاعرة أن ترفض دم الافتراس باعتبار القتل الأخوي لا يمكنه أن يدوّن في سجل الانتصارات العظيمة: «فكيف لذئب أن يفترس أخاه ثمّ يعوي منتصراً؟!»

    وتحت ضغط الوجود بما فيه من أذيّة زمن وناس، تلوذ رحيمي بالطبيعة، وتمضي إلى الليل وحيدة، ورغبتها في أن تراه هو وحيداً أيضاً طمعاً بهداياه الغامضة: «أنا وأنت وحدنا والكلّ نيام / فافتح لي هداياك الغامضة / من شعر وأحلام»... والطبيعة هي أيضاً تدخل لعبة الحبّ من الباب الواسع، وللنجوم أن ترتاح على بساط النهار وتزور كفّين عاشقتين: «عندما تتساقط النجوم / في كفيّ / وضح النهار / أدرك حينها / أنّني في ضيافة خيالك». وللغيمة أن تكون هديّة وهي مكلّلة بالعشق ومغلّفة بالأوردة: «في عيدك أهديك / غيمة عاشقة / مغلّفة بأوردتي / لتقول لك: / كلّ مطر / وأنت شتائي».

    أمّا الوطن عند رحيمي فهو الذي لا ترتاح كتفاه لعباءة الطائفية، وفي هذا السياق تصوِّب سهامها إلى صدور زعماء الطوائف الذين بلا وجوه، الطالعين من عفن الماضي، السائرين إلى زوال يوم يكبر أطفال منذورون للثورة ولكل جديد آن أوانه: لا وجه لك / تتفقّد رأسك / هناك صدى... / وعفن أزمنة سحيقة... / ستركلك أقدام أطفال يستعدّون للتكوين». وتحتفل رحيمي شادّة بيدها المضرّجة بالحبر على يد الشهيد المضرّجة بالدماء، ذاهبة نحوه على جسر الشهادة الشاهق لتقف وتنثر زهر لغتها فوق نهر البطولة. فالشهيد يأخذ المكان معه ويجعل الشاعرة أسيرة دائرة الأسئلة: «سار الكوكب معك / لا مكان أطلّ منه عليك / سحابة أسئلة / حملت صوتي إليك».

نور وحقيقة

الشهادة عند رحيمي تضحك، ومن ضحكها ينزل الملح ليدفئ صباحات محاصرة بالثلج ويتدلّى العيد أنغاماً: «كيف حال ضحكاتك / التي تسيل ملحاً / في صباحات الجليد / كيف حال تراتيل العيد / المتدلّية من أغصان يديك»...

    وفي قصيدة «شموس للجميع»، تعتصم رحيمي بالمحبة، كبيرة القيم، التي لها وحدها أن تملك وأن تحقّق حلمين صغيرين طالعَين من سنبلة وقلب: «أنا المحبّة / أنا مليكة الأرض / مرصّع تاجي بأحلام صغيرة / الرغيف والحبّ»، والمحبّة هي صاحبة طواحين النور والخبيرة في صناعة ذهب الشموس التي تجتاز التراب عدداً: «في قلبي شموس / بعدد حبّات التراب / تكفي جميع البشر / فمتى في شموسكم تضيئونني؟!»

    وتعلن رحيمي التزامها بالإنسان على شموليّة، ولو توجّهت بالكلام إلى أمّتها من حين إلى آخر. فتحاول تقمّص الصّرخة لأنّ أجيالاً افترسها الصمت والوجع المخبّأ، وتحاول أن تكون ألف حنجرة لريح: «أنا الصراخ / حنجرتي ضجيج / أجيال صمت / تاريخ الأنين المكتوم / أشرعة الغربة / علقم النواح / وألف... ألف موسم / من عويل الرياح».

وفي تبنّي رحيمي الهمّ الإنساني عصف للنور والحقيقة، وحضور لنهارات تغتالها صباحاتها البليدة، ولشوارع هرمت المسافة فيها، لأنّ الأمّة مدّت يدها مستعطية على رصيف الظلام: «أنا الإنسان / النور... الحقيقة / أنا الذي نهاره بليد / مساؤه أزقّة هرمة... / أضاعت لغتها أمّتي / متسوّلة أصبحت أبواب الظلام»...

    وتبقى «ريتا» أيقونة الروح عند رحيمي، والفراشة التي تختصر جداول فراشات الربيع، وكلّ الألوان الموشومة على ذاكرة ربيع العمر: «يا فراشاتي البديعات عذراً / حقول قلبي لا تتّسع إلاّ لفراشة واحدة / رسم ألوانها ربيع العمر / وسمّاها ريتا».

    أمّا قصيدة «هنا لبنان» فتجسّد ذروة المأساة اللبنانيّة في وطن سكنه السجن الكبير، لترقد الشرائع تحت التراب، ويعلو تاج الملك جباه القتلة، ويصير الإنسان كلمةً عبثاً تنشد معناها: «هنا وطني / ... السجن الكبير / ... هنا مقبرة الشرائع والدساتير / هنا يُرجَم القتيل وينصّب القاتل أميراً / ... وكلمة بلا معنى يمسي الإنسان».