جورج أورويل 1984 (1)

نشر في 17-03-2015
آخر تحديث 17-03-2015 | 00:01
 د. نجمة إدريس لا ندري ما الذي حدا بجورج أورويل الكاتب الإنكليزي إلى إصدار روايته التي تحمل عنوان: "1984" بُعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أي عام 1949م؟ ذلك أن انتصار الحلفاء في الحرب كان قد مهّد لإنهاء دكتاتوريات القرن العشرين متمثلاً باندحار هتلر وستالين وموسوليني وبيرون وغيرهم.

كما أن بريطانيا كانت قد خرجت كحليفة منتصرة واستأنفت ترميم جراحها في ظل ديمقراطيتها العريقة، يضاف إلى ذلك بزوغ هيئة الأمم المتحدة التي أعطت آمالاً عريضة لإمكانية إحلال حالة من السلم العالمي، والحضّ على الالتزام بالمواثيق الدولية لإبعاد شبح الصراعات والحروب وظلال الدكتاتوريات البغيضة.

 ولكن يبدو أن جورج أورويل، الذي أطلق نبوءته المشؤومة، ثم مات بعدها بعام أو أقل، كان يرى أبعد من المشهد الآني، ويرسم صورة قاتمة للحال التي ستؤول إليها الأنظمة الحاكمة، ويؤول إليها مستقبل الإنسان في ظل دكتاتوريات كاسحة لا تُبقي ولا تذر. وإن كان الكاتب قد اختار عام 1984م زمناً مستقبلياً للقص فلعله قارب واقع الحال في منطقتنا على الأقل، والتي كانت قد نمت فيها الرموز الدكتاتورية بجدارة كنظام صدام حسين ونظام معمر القذافي وأنظمة حزب البعث في سورية وأمثالها على طول خريطة المنطقة، وإن تخفوا بأقنعة وهيئات أخرى.

ويخيّل لقارئ الرواية، وهو يمرّ بأحداثها القاسية والمرعبة، أن أي دكتاتور من أولئك لا بدّ أنه وجد في أفكار الرواية منهجاً مُحْكماً وجاهزاً لأفانين العسف والقمع وقتل روح الإنسان وكرامته، وأن كل دكتاتور من أولئك هو (الأخ الكبير) بطل رواية 1984.

 و(الأخ الكبير) في الرواية هو الرمز المطلق للسلطة، والذي كرّس وجوده المادي والمعنوي من خلال الصور الضخمة المنتشرة في كل مكان وزاوية، في أروقة العمل والساحات والبيوت، حيث يطل على الجميع من وراء صرامته وضخامة وجهه وشاربيه، وهو معصوم من الخطأ ويتمتع بقدرة مطلقة، وكل نجاح وكل إنجاز وكل انتصار وكل اكتشاف علمي يُنسب إليه. كما أن كل معرفة وكل حكمة وكل سعادة وفضيلة إنما يُعزى الفضل فيها مباشرة إلى قيادته الملهمة.

يليه في السلطة الحزب الداخلي، وهو العقل المدبّر للدولة، أما الحزب الخارجي فهم الأيدي العاملة فيها، وفي أسفل الهرم تأتي العامة، وهم الطبقة الدنيا التي لا أثر لها ولا شأن.

  أما الحزب الداخلي والمبرزون من الحزب الخارجي فقد تمت برمجتهم ليكونوا موالين لمبادئ الحزب ومراقَبين بشكل دائم من شرطة الفكر في ذات الوقت، وأن يكونوا أداة طيّعة للتنفيذ والطاعة العمياء، خالين من الشك والظن والفضول، منسلخين من فطرة المنطق العقلي والعواطف البشرية.

أما طريقة صنع هذا النموذج الآلي من أفراد الحزب الحاكم فيكون باتباع جملة من الأساليب، منها نصب شاشات وأجهزة تصنت تكشف الحركات والسكنات، وتبث إرسالاً على مدار الساعة لجملة من التعليمات والأوامر والبرمجة العصبية، التي يجب أن تُطاع وتُحتذى ويتم الإيمان المطلق بها، ومنها أيضاً المراقبة الدائمة والتجسس من زملاء العمل والجيران والأبناء، حتى الأطفال منهم، ممن جُندوا منذ وعيهم الأول لمهام تقديم تقارير وإفادات عن أهلهم وجيرانهم، ومنها الاعتقالات والاستجوابات والتعذيب الجسدي والمعنوي لتدريب النفس على الولاء الأعمى لمبادئ الحزب وأدبياته وأفكاره، وإن بأقسى الأساليب دموية وشذوذاً.

 ثم تخطو السلطة الدكتاتورية نحو ما هو أعظم، وهو صنع واقع منقطع الصلة بالتاريخ والمنجز الإنساني السالف، فيتم محو التاريخ والذاكرة بما يتناسب والتوجهات الآنية للحزب الحاكم، ويتم تحريف الشعر والأدب وفبركة الصور والأفلام، وتفريغ اللغة من روحها الأصيلة لتُصَب في قوالب تخدم الأنماط الفكرية الجديدة للحزب، وعلى ذات المنوال تتواصل عمليات الملاحقة والتجسس والخطف والتعذيب والتصفيات (للخونة) أو إخفائهم دون أثر، أو خروجهم على الملأ باعترافات تحت التعذيب بما ارتكبوه أو لم يرتكبوه من جرائم، لتتم بعدها حفلات الشنق والإعدام التي يحضرها العامة للترفيه والعبرة!

 وكما تُشنّ الحرب على التفكير والمنطق، تُشن ذات الحروب على العواطف والمشاعر الإنسانية ساعية إلى إفراغ الإنسان من فطرته وصلاته القلبية والروحية، فهناك مكافحة شرسة للرغبة الجنسية وكراهة لعلاقات الحب والزواج ومن ثمّ الإنجاب، وهناك خلخلة لصلات الرحم وآصرة الدم واللحم، حين يُجند الأطفال لمراقبة والديهم، أو تشي الزوجة بزوجها والجار بجاره والأخ بأخيه.

 أما عامة الشعب في أمثلة هذه الحكومات الدكتاتورية والتي تشكل غالبيته، فليسوا سوى سقط متاع، ذلك أنهم يظلون مشغولين في السعي لسدّ حاجاتهم الأولية عن طريق العمل في أحطّ المهن التي تكفل لهم معيشة ضنكاً ودوراناً حول ذات الهموم اليومية التافهة. وليس هناك أية دواعٍ لمحاولة غرس أيديولوجية الحزب فيهم، إذ ليس من المرغوب أن يكون لدى عامة الشعب وعي سياسي راسخ. فكل ما هو مطلوب منهم وطنية بدائية يمكن اللجوء إليها حينما تستدعي الحاجة، لذلك تترك لهم السلطة حرية الإنجاب وممارسة الشعائر الدينية وتجارة المخدرات والبغاء واللصوصية والدعارة وما شابه من انحطاط، ومن هنا راج شعار الحزب الذي يقول: "عامة الشعب والحيوانات أحرار"!

back to top