عندما يلد المكان حكاياته

نشر في 16-02-2015
آخر تحديث 16-02-2015 | 00:01
 فوزية شويش السالم كنا في فترة الغداء بعد انتهاء الندوة الصباحية في آخر مؤتمر للرواية بالقاهرة، وكنت متوجهة للبوفيه عندما سمعت صوتا عاليا يأتي من خلفي يقول: هل سمعتم بأحد يرمي بأولاده كلقطاء من بعد ولادتهم؟ فوزية شويش السالم تفعل برواياتها هكذا، التفت وإذا بالكاتب اليمني محمد الغربي عمران هو الذي يتكلم ويشير إلي، ضحكت وسألته عن مقصده، فقال أنت تكتبين رواياتك وترمينها خلفك كأيتام دون أن تهتمي بها وبمتابعتها كأنها ليست لك ولا يعنيك أمرها، وهو ما فعلتِه بروايتك «حجر على حجر» التي كتبتِها عن اليمن.

كلامه حقيقي مئة في المئة، فأنا للأسف ينقطع نفسي بانتهاء آخر كلمة في الرواية، وتنقطع خيوطي المشدودة معها، وتبات غريبة عني حتى مشاهدها وجملها تغيب ويمحوها النسيان، وكأن كتاباتي كانت فقط لإفراغ حمولتي لأصبح خفيفة لأرتاح منها وأحلق بعيدا عنها دون أن تعني لي شيئا، وهذا لأن التسويق والترويج والدعاية ليسوا من طبعي ولا لعبتي، فهي في حاجة إلى علاقات أنا بعيدة عنها، إلى جانب عدم وجود مؤسسات نشر تتولى القيام بهذا الدور، وتعفي الكاتب من «مرمطة» التطبيل والترويج لعمله.

في ذاك اللقاء الأول بيننا لم أكن قد قرأت لمحمد الغربي عمران أي عمل له، ومر الوقت إلى أن اكتشفت في مكتبتي مجموعتين قصصيتين له، الأولى «الظل العاري» والثانية «حريم أعزكم الله»، وبعد قراءتي لهما اكتشفت أن المكان، وهو صنعاء، وبعض من المدن اليمنية، هو الذي كتب أو ولد القصص الواردة في المجموعتين، فاليمن الغامض المنطوي على أسراره وطلاسمه وأحجيته، الغائر وشمه في التاريخ، هو من أملى روحه على كتابة محمد الغربي عمران، ولو لم أزر اليمن بمدنه المتعددة لما أحسست وأدركت أجواء قصصه المتلفعة في غموضها السريالي الداكن، المتخفي خلف رمزية الحلم والتأويل، وعلى القارئ تقع الحمولة الكبرى لفك شفرية هذه الأحجيات المتسربلة في رمزيتها التي تبوح ولا تبوح، تريد قول كل شيء لكن تترك مهمة الفهم والتفسير على عاتق القارئ، وتمضي خفيفة بحمولتها من دون أن تُتهم أو تدان بما أباحت أو صرحت به.

ويبقى العبء الأكبر على القارئ أن يفهم رمزيته، فكتابة محمد الغربي عمران ليست سهلة فهي ذات مستويات متعددة في القراءة، أما أن تُفهم من السطح الأول كحدوثه، أو أن تمعن في تفكيك شفراتها وتصل إلى مستوياتها المطوية فيها المعاني الحقيقية ذات التأويلات المختلفة.

قصص المجموعتين حزينة سوداوية كلها تدور حول رجل أو امرأة، كل منهما لا يملك أي قبضة من سعادة حقيقية في مدينة تحاصرهم بحزن لا مهرب منه إلا إليه كما كتبه: «وقفت عاريا، الشوارع خالية، لا أحد، اكتشفت بعد طلوع الشمس أن هذه ليست صنعاء، هذا ليس ميدان التحرير، سرت في شوارع مقفرة أبحث عمن يدلني على طريق العودة، بحثت وبحثت، وما زلت أبحث عن صنعاء».

«اختلط عليه المكان، اختلطت الملامح، ولم يعد يميز، ولم يعد يعرف هل هو في صنعاء! أم في قرية؟! وهل من حوله جماعة زريبة النخيل جاءوا لزيارته كما وعدوه، أم انها حيوانات القرية؟ وحين عادوا إلى ملامحهم وكشفوا عن شخصياتهم، كان سروره دون حدود، أخبروه أنهم تعلموا مهارات جديدة، وأنهم يستطيعون اللعب بالمكان أيضا، حيث يختار كل منهم مكانه، ثم يبدأ كل واحد بالبحث عن زميله في عدة أمكنة، وعدة أزمنة، بعد أن يغير ملامحه».

قصص مكتوبة بلغة جميلة عميقة وسهلة وذات خفة وتخفي في المعنى، بعضها يصلح لأن يكون نواة لبنيان رواية، كما أن بعض المشاهد السريالية سينمائية بجدارة خاصة تلك التي تدور حول عالم الحشرات مثل الذباب والصراصير والقبور في قصة أمي، وأصبع أنثى في الشوربة، وقصة مريم، والولد الغراب، والكثير من مشاهد الغرابة التي كثر عبورها في القصص.

شعرت بالحزن لهذه المدن التي أحببتها وعشت فيها أوقاتا سحرية من عمري سكنتني بغموضها الذي لم أفك أسره إلى الآن، وأدركت من هذه القصص خفايا ما لم أفهمه من اليمن السعيد الذي يمر بأكبر محنة، وانقبض قلبي حين أحسست بأنني لن أتمكن من رؤيته مرة أخرى.

back to top