11 سبتمبر وعملية نقد الذات

نشر في 22-09-2014
آخر تحديث 22-09-2014 | 00:01
 د. عبدالحميد الأنصاري تحكم دنيا العرب جملة من الأفكار التي تتسم بالجمود، منها: فكرة أو نظرية "التآمر الخارجي" التي تروج في الساحة، وتحظى بقبول قطاعات واسعة في المجتمعات العربية، ولها مؤيدون: كتاب وإعلاميون ومسؤولون وسياسيون وأمنيون ورموز دينية وقومية ويسارية.

 مرت الذكرى الـ13 لهجمات 11-9 على أميركا وما زال قطاع كبير من العرب- سواءً على مستوى الرأي العام الشعبي أو النخب السياسية والفكرية- على اعتقاد بأن المخابرات الأميركية أو "الموساد" هما من دبرا هذه العملية، ذريعة للانقضاض على العالم الإسلامي ونهب خيراته والتحكم في مقدراته، أو اتخاذها "فزاعة" تخيف به العرب لكي تحكم سيطرتها عليهم، وأن بن لادن وصحبه بريئون منها، لأنهم أقل قدرة من عملية بهذا الحجم.

 وأذكر صبيحة ذلك اليوم الكارثي، قبل 13 عاماً، أن قناة "الجزيرة" استضافت خبيراً إعلامياً، أكد أنها من فعل "اليمين الأميركي المتطرف" مستدلاً بحادثة "أوكلاهوما"، ونفى بشدة أن يكون شبابنا من فعلها، لأنهم لا يملكون القدرة والخبرة والتخطيط على تنفيذ ذلك الفعل وبهذا المستوى! وراجت تلك الحجة في الساحة والتقطها الكاتب الصحافي صلاح منتصر في عموده اليومي في الأهرام 13-9-2001 ليسوق 8 براهين تؤكد براءة شبابنا من تلك الفعلة.

ولأننا لا نصدق إلا ما نهوى فقد تلقفنا كتاباً لفرنسي مغمور وترجمناه عدة تراجم، وطبعناه عدة طبعات، وروجنا له كما لم نروج كتاباً، ذلك هو كتاب "الخدعة الرهيبة" لتيري ميسان، لماذا؟ لأنه قال ببساطة ما يفرحنا "إن أميركا ضربت نفسها بنفسها"، وإنه لا شيء يدل على أن "البنتاغون" قد ضربت بطائرة! وجاء صاحب الكتاب إلى ديارنا بالحفاوة والتكريم، ورحل بعد أن جنى أموالاً طائلة، واختفى في زوايا النسيان، ونشطت في حينها، رموز دينية عبر المنابر الإعلامية وخطب الجمعة لتبرئة ساحة أبنائنا، بحجة أنه "لا يفعلها مسلم"، وألقت باللوم على الأميركيين، فهم الذين دبروا هذه المؤامرة لغزو أفغانستان من أجل "نفط قزوين".

 وقام أحد كبار رموزنا خطيباً على المنبر، مؤكداً براءة بن لادن لأنه أعطى السمع والطاعة لأمير المؤمنين الملا عمر بألا يعمل سوءاً، كما أن الرجل ليس له من الوسائل ما يمكنه من هذا العمل، بل أكد هذا الرمز الديني الكبير على الملأ أن أميركا تعلم علم اليقين ذلك، لكنها تحشد للقضاء على المسلمين بدافع صليبي حاقد!

 ولم يسأل أحد هذا الرمز الديني: من أين لك مثل هذا اليقين؟! ولماذا تضرب أميركا أفقر دولة إسلامية؟! ولم يكن هذا الرمز الديني وحده في هذا الاعتقاد، بل سانده معظم الرموز والخطباء الدينيين من السنّة والشيعة معاً، بل لم تكن الرموز الدينية وحدها التي تروج لفكرة التآمر، كذلك الرموز القومية، وأبرزهم المنظر الأكبر للناصرية، الذي سارع واتهم اليوغسلاف الصرب بأنهم الذين ضربوا أميركا انتقاماً من ضربها لهم!

وقد يكون لكل هؤلاء ما يشفع لهم في اعتقادهم الواهم، حيث لم تكن الحقائق قد ظهرت كاملة، لكن ما يثير العجب اليوم أنه لا مرور 13 عاماً على تلك الهجمات التي جرت الكوارث على العرب والمسلمين، ولا ظهور الاعترافات الصريحة المفصلة من الفاعلين وأبرزهم خالد شيخ محمد العقل المدبر لهجمات 11-9، ولا ظهور تقرير اللجنة الأميركية الوطنية للتحقيق في اعتداءات 11-9 والمؤلف من 575 صفحة، وقد استغرق 19 شهراً وجمع أكثر من ألف شهادة ومعلومة موثقة، وهي لجنة مكونة من 10 أعضاء من الحزبين المتنافسين، ولا حتى الاحتفالات السنوية لـ"غزوة مانهاتن" التي اعتاد القيام بها أصوليو لندن تمجيداً لـ"العظماء الـ19"، وذلك قبل طردهم، كانت كافية لتغيير قناعة هؤلاء أو زحزحة إيمانهم بأن "القاعدة" بريء وأن أميركا هي المسؤولة!

 دعونا نتساءل: لماذا تتمكن "نظرية المؤامرة" من العقلية العربية؟! وكيف تترسخ أوهام التآمر في الساحة، وتقاوم التغيير حتى بعد ظهور زيفها؟! ولماذا لا يعترف من ضلل وزيف الوعي العام بخطئه ويقدم اعتذاره؟! ولماذا يظل قطاع شعبي كبير أسيراً لنظرية المؤامرة؟! الجواب: أن الذات العربية مولعة بتبرئة نفسها واتهام غيرها ممن تعتقدهم أعداء متربصين: مذهباً أو ديانة أو قومية أو جنسية، تحملهم وزر أخطائها، وهي آفة ثقافية عربية موروثة وممتدة من أيام "الفتنة الكبرى" حين حملنا وزرها لـ"عبدالله بن سبأ اليهودي".

 إن الذات العربية دائماً تبحث عن عدو داخلي أو خارجي تحمله مسؤولية كوارثها ومصائبها وتردي أوضاعها وسوء أحوالها، تهرباً من العملية العسيرة، ممارسة نقد الذات ومراجعة الأوضاع الشاملة بهدف تلمس العثرات والإفادة من الأخطاء والتجارب والخبرات، كما تفعل كل شعوب العالم التي تجاوزت أوضاعها السلبية عبر منهج نقد الذات.

ختاماً: قبل 13 عاماً وفي أعقاب هجمات 11-9، لم تعترف مجتمعاتنا بمسؤولية أبنائها، واتهمت الآخر الأميركي أو اليهودي، ولم تقم بمساءلة مؤسساتها التربوية والدعوية والإعلامية والاجتماعية المسؤولة عن تحصين شبابنا في مواجهة أمراض التطرف، لم نطور المنظومة التعليمية والدينية بما يحقق الأمن الفكري لشبابنا، ولم نعزز مناعتهم الفكرية عبر الفكر التنويري وقيم الحداثة والتقدم.

 وقلنا: الإرهاب فيروس دخيل، وهو من صنع غيرنا، ولم نضع برامج لتجفيف منابع الإرهاب وسد روافده واجتثاث جذوره، ولم نقم بتشريح الفكر الإرهابي وتفكيك خطابه ومضامينه، لأننا رفضنا منهج نقد الذات، فخالفنا بذلك المنهج القرآني الذي يقرر مسؤولية المسلمين عن سوء أوضاعهم، وفساد ذات بينهم، وانتشار الفكر العنيف بين أبنائهم، قال تعالى "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ"، وعندما حاول بعض المسلمين تعليل قصورهم باتهام الآخر- العدو الكافر– رد القرآن عليهم "وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ".

 تهربنا من المسؤولية وانشغلنا بحديث المؤامرة، وغيبنا منهج نقد الذات والمساءلة، وهكذا بقي الفيروس الإرهابي بين أظهرنا، وانتعش واستشرى وتطور وتغلغل ثم توحش، لنجد أنفسنا بعد 13 عاماً أمام النسخة الأكثر ضراوة وفتكاً من هذا الفيروس "داعش" يصطاد شبابنا ويحولهم إلى قنابل رخيصة تفجر وتقتل وتروع وتهجّر، ولا تعترف بحدود الدولة، وتعلن الحرب على الأنظمة القائمة... ها نحن اليوم، نلتمس من أميركا التي اتهمناها تخليصنا من "داعش".

 * كاتب قطري

back to top