في ذكرى الدستور
حلت يوم أمس الذكرى الثانية والخمسون على إصدار الدستور الذي وضع أسس بناء الدولة المدنيّة الديمقراطية الحديثة، وكان من المفترض، كما ينُص، أن يُطوَّر بعد مرور خمسة أعوام لمزيد من ضمانات الحرية والمساواة، ولكن ذلك لم يحصل، بل على العكس، كانت هناك محاولات دؤوبة، فشلت حيناً ونجحت في أحايين كثيرة، للتراجع عن الإطار العام الذي حدده الدستور لنظام الحكم الديمقراطي، وخصوصاً فيما يتعلق بتفعيل دور المؤسسات الدستورية وتجذير المشاركة السياسية وحماية الحريات العامة وتوسيعها وفصل السلطات. ومن أسف أنه وبعد أكثر من نصف قرن على إصدار الدستور، أصبحت شهادة المواطنة مادة للتجاذبات والصفقات والمساومات والعقوبات السياسية، وأُصيبت المؤسسات الدستورية، وخاصة المؤسسة التشريعية، بالهُزال، ففقدت جزءاً مُعتبراً من التأييد الشعبي بعد أن اقتنع قطاع مهم من المواطنين أنه لا جدوى من العمل البرلماني، لاسيما بعد أن أصبحت الحكومة تتحكم في مجلس الأمة وتُسيّره كيفما تشاء.
علاوة على ذلك، فقد شُوهت قيمة المواطنة الدستورية المتساوية حتى في أذهان أطفال المدارس وطلبة الجامعة نتيجة لبعض السياسات الحكومية الفاشلة التي تتعامل مع المواطنين وتُقيّمهم بحسب قربهم من دائرة اتخاذ القرار، أو بحسب انتماءاتهم العرقية والفئوية والطائفية، الأمر الذي جعل الهويات الصغرى مثل القبيلة والطائفة والعائلة تبرز بقوة، أكثر من أي وقت مضى، وتتحكم في سلوك الجيل الجديد وتصرفاته على حساب الهوية الوطنية الجامعة. ونتيجة لهذا الوضع السياسي غير السليم الذي تراجعت فيه المشاركة الشعبية واختلت فيه موازين القوى في غير صالح استكمال بناء الدولة المدنية الدستورية العصرية، أصبحت هناك مطالبات شعبية اتخذت أشكالاً عديدة تنادي بإصلاحات سياسية ودستورية، وهو الأمر الذي فتح النقاش الشعبي حول مدى ضرورة تعديل الدستور للخروج من الأزمة السياسية. وفي هذا السياق، طرحت بعض العناصر والقوى السياسية الدينية والمحافِظة فكرة مشروع دستور جديد، أو على الأقل إجراء تعديلات دستورية كثيرة وجذرية ستؤدي في النهاية، كما اتضح من المشروع الذي تقدموا به في بداية العام الحالي، إلى إقامة دولة دينية حتى وإن غُلِّف المشروع بشعارات مثل "الحكومة المنتخبة"، وهي شعارات قد تبدو جذابة و"ديمقراطية" من حيث الشكل، لكنها خاطئة وغير ديمقراطية من حيث الموضوع، لأنها تنقض الأسس التي قام عليها الدستور الحالي، من حيث كونه توافقاً وطنياً عاماً على بناء دولة مدنيّة ديمقراطية.وعلى الجانب الآخر، طرحت قوى وطنية ديمقراطية وتقدمية مشروع إصلاحات سياسية ديمقراطية مع بعض التعديلات الدستورية اللازمة والتي من شأنها تعبيد الطريق للانتقال إلى النظام البرلماني الكامل في دولة مدنيّة ديمقراطية.وعلى أية حال، فالدستور ليس نصوصاً مُقدسة لا تُمسّ، بل من المفروض أن تُنقح مواده مع الوقت بحسب ظروف المجتمع ومتطلبات تطوّره وتقدمه، ولكن بشرطين: أولهما أن تَسبق تنقيح مواد الدستور إصلاحات سياسية تُجذِّر المشاركة السياسية وتُعمقها، (مثل وجود نظام انتخابي عادل وعصري مع تنظيم الحياة السياسية على أسس مدنيّة ديمقراطية وليست قبلية أو طائفية أو فئوية)، مع الأخذ في الاعتبار موازين القوى السياسية والشعبية وقت طرح مشروع التنقيح. أما الشرط الثاني فأن تكون التعديلات الدستورية المقترحة تعديلات مدنيّة، أي لمزيد من ضمانات الحرية والمساواة، وتحظى بتوافق وطني عام، بحيث تُمهد الطريق للانتقال إلى النظام البرلماني الكامل، واستكمال متطلبات بناء الدولة الدستورية المدنيّة العصرية.