يتصاعد الدور الذي يلعبه الإعلام في الواقع العربي الراهن تصاعداً شديداً، ويزيد حجم الاستثمارات التي يتم ضخها في المشروعات الإعلامية زيادة مطردة، وتتعاظم الجهود التي تبذلها الدول والحكومات للسيطرة على المجال الإعلامي أو تفادي المخاطر التي تنشأ عنه يوماً بعد يوم.

Ad

وفي الوقت الذي تتزايد فيه أهمية صناعة الإعلام، ويتعاظم تأثيرها في شتى مجالات العمل الوطني في بلداننا العربية، يبرز عدد من الأخطاء التي تشوب الطريقة التي تتعامل بها السلطات مع تلك الصناعة وتجلياتها.

إن تلك الأخطاء تتفاقم يوماً بعد يوم، وتلقي بظلال سلبية على الممارسة الإعلامية، وتحرفها عن القواعد المهنية، وتحد من حريتها، وتسلبها القدرة على النهوض بدورها المفترض.

الخطأ الأول يتعلق بانطباع عام مفاده أنه من الممكن أن تُحكَم الدولة عبر السيطرة على وسائل الإعلام، بصرف النظر عن الإنجاز على الأرض، ومقدار الرضا عن أداء الحكومة، ومعدل الثقة في السلطات القائمة.

يتعلق هذا الخطأ بما اصطلح على تسميته بحكم "الميدياقراطيا" Mediacracy، وبحسب تعريف بعض الباحثين والمحللين، فـ "الميدياقراطيا" هي "حكم الميديا ووسائلها"، أو هي "الحكم غير المباشر بوسائل الإعلام الشعبية، بسبب اضطراب يعتري الديمقراطية، وهي نظام يتوقف فيه الساسة عن التفكير، ويكتفون بمتابعة وسائل الإعلام في ما يتعلق بتحديد ماهية القضايا الكبرى، وما الذي يتوجب عليهم فعله بشأنها".

خلال حكم "الميدياقراطيا"، لا يهتم الساسة بحل المشكلات على الأرض، ولا بالتخطيط ووضع الاستراتيجيات، ولا بالسهر على إنفاذ القانون، لكنهم يهتمون فقط بصورتهم عبر وسائل الإعلام. ولأن بعض وسائط الحكم وسلطاته؛ ومنها "القضاء"، أو "البرلمان" على سبيل المثال، تكون مهترئة أو غائبة أو فاقدة للفاعلية؛ فإن "سلطة الإعلام" تبرز وتتسيد المشهد تماماً، حتى تتغول على غيرها من السلطات وتفتئت على أدوارها.

يقود هذا الخطأ إلى احتلال الإعلام مكانة "السلطة العابرة للسلطات"، أو "السلطة فوق السلطات"، بدلاً من موقعها المأمول كـ"سلطة رابعة"، أو كـ"رقيب للناس على الحكم والأداء العام".

وحين يصبح الإعلام سلطة في حد ذاته، أو أداة الحكم الرئيسة التي تحكم بها السلطة، يتم تفريغ المؤسسات من أدوارها، ويعيش الجمهور عالماً زائفاً مصطنعاً يأتي عبر الصور والكلمات، ثم لا يلبث أن ينتفض هذا الجمهور أو يثور حين يعلم أنه كان "ضحية خداع الميديا وصورها الكاذبة".

أما الخطأ الثاني فيتصل بالدور المفترض لوسائل الإعلام في محاربة "الإرهاب"، إذ يعتقد البعض، وبينهم ساسة نافذون وخبراء وأكاديميون، أن الإعلام يمكن أن يقهر الإرهاب وحده، أو أنه "صاحب المجهود الرئيس" في مواجهة التحديات الإرهابية.

وتنفق دول عربية كثيرة أموالاً ضخمة على محاربة الإرهاب عبر وسائل الإعلام، وتتعاقد مع شركات علاقات عامة وإعلام لصياغة استراتيجيات لمواجهة التحدي الإرهابي، أو تنتج أفلاماً وإعلانات بتكاليف كبيرة، أو تدفع الوسائل الإعلامية التي تسيطر عليها إلى تبني أنماط أداء خاصة لمقاومة العنف والتطرف الديني.

وبسبب هذا الاعتقاد، يتوقف الساسة عن وضع الخطط اللازمة لمكافحة التحدي الإرهابي، كما تتخلى أجهزة الدولة ومؤسساتها المعنية عن أدوارها المفترضة في التصدي لخطر الإرهاب، وينتظر الجميع أن يقوم الإعلام بكسب المعركة وحده، معولين على قدرته الكبيرة على النفاذ والتأثير في قطاعات الجمهور.

وفي الوقت الذي يتم التعويل فيه على الإعلام وحده لخوض تلك المعركة الشرسة، لا تنهض مؤسسات التعليم والثقافة والفن والإبداع بدورها، كما لا تقوم المؤسسات الدينية الرسمية بما هو مفترض من تطوير للفكر والتصور والخطاب الديني، وهو الأمر الذي يفشل خطط مواجهة التحدي الإرهابي ويفقدها فاعليتها وتكاملها وقدرتها على الاستدامة.

ويتعلق الخطأ الثالث بالانطباع الذي تولد لدى قطاعات في السلطة بالعديد من دولنا العربية، بأنه من الممكن السيطرة على مصادر الرسائل الإعلامية والتحكم في مضمونها، بشكل يخفف الاحتقان، ويحبط الروح الاحتجاجية، ويطوق النزعات النقدية، ويخلق اصطفافاً وتأييداً واسعين للقيادة السياسية.

وبسبب هذا الانطباع، فإن مجهوداً كبيراً يكرس لضمان ضبط الرسائل الإعلامية في مسارات محددة، ويتخذ هذا المجهود أشكالاً مختلفة؛ بعضها يستخدم الترهيب والضغط والابتزاز، وبعضها الآخر يستخدم الترغيب ووسائل الإقناع الطوعية.

ولعل هذا الخطأ يفسر لنا سبب احتفاظ الكثير من البلدان العربية بمنظومات إعلامية كبيرة ضمن ملكية الدولة، وهي منظومات لا تتحلى طبعاً بالكفاءة اللازمة، ولا تدار بمفهوم "الخدمة الإعلامية العامة"، بقدر ما تدار بهدف تأطير الرسائل الإعلامية عبر السيطرة على مصادرها.

أما الخطأ الرابع فيتصل بتصور البعض أنه من الممكن منع الرسائل الإعلامية غير المرغوب فيها سياسياً من الظهور والوصول إلى الجمهور والتأثير فيه.

يعتقد البعض أنه بالإمكان منع وجهة نظر معينة من البروز عبر محاصرتها في المنابر الإعلامية النظامية بما يحرمها الانتشار والرواج.

من المؤسف أن تكون تلك الانطباعات سائدة في هذا التوقيت بالذات، خصوصاً في هذا العهد الذي يشهد زيادة كبيرة في استخدام "الإنترنت" في عالمنا العربي، وارتفاعاً هائلاً في أعداد مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي.

لا يمكن حكم دولة عصرية عبر وسائل الإعلام، مهما كانت تلك الوسائل نافذة ومؤثرة، ومهما كانت السلطات والمؤسسات عاجزة ومهترئة.

ولن يكون بوسع الإعلام لعب الدور الرئيس في محاربة الإرهاب، لأن تلك المعركة تخص الدولة والمجتمع والمؤسسات والجمهور نفسه، وإذا كان للإعلام دور فهو دور ثانوي ومكمل، والاستقالة من الأدوار الصلبة المفترضة والتخلي عنها لمصلحة الإعلام وحده لن تؤدي إلا إلى كوارث ومخاطر كبيرة.

وكما أنه يصعب جداً السيطرة على مصادر الرسائل الإعلامية في واقعنا العربي الراهن بسبب التغيرات المذهلة التي طرأت على طبيعة العملية الاتصالية من جهة وحالة التلقي الإعلامي من جهة أخرى، فإن التفكير في منع رسائل إعلامية بعينها ليس سوى نوع من العبث، لأنه لن يؤدي إلا إلى رواجها وانتشارها.

* كاتب مصري