فجر يوم جديد: {لحن الخلود}
وأنا أقلب في أوراق المخرج الكبير بركات قبل الشروع في إعداد كتاب «بركات.. زعيم المحافظين في السينما المصرية» استوقفتني الكلمات التي قدمته بها جريدة «لوموند» الفرنسية الشهيرة، صبيحة يوم 25 أغسطس عام 1986، الذي اختاره التلفزيون الفرنسي لعرض فيلم «لحن الخلود» (إنتاج 1952) على الجمهور الفرنسي؛ إذ أشادت بمخرجه، ودوره في السينما المصرية، مثلما أشارت إلى الظلم الذي يتعرض له مقارنة بمخرجين آخرين؛ مثل: يوسف شاهين، صلاح أبو سيف وتوفيق صالح!صرحت «لوموند» بما لم يستطع أحد من النقاد والصحافيين المصريين الجهر به؛ فالمخرج الذي عاش ليعمل في هدوء تعرَّض لظلم بين أولئك الذين لم يقدروا قيمته، وتجاهل صارخ من الباحثين الذين لم تستوقفهم حقيقة أن الرجل الذي وصل إلى ذروة الإبداع في أفلام: «دعاء الكروان»، «الحرام»، «في بيتنا رجل» و{الخيط الرفيع»، ونجح في التعبير عن حياة القرية والمدينة، طرق أنواع الأفلام كافة، وصنعها بدرجة كبيرة من الإجادة، والإتقان؛ بدليل تجربته في فيلم «لحن الخلود»، التي تشي بحساسية من نوع خاص في الاقتراب من اللون الغنائي ربط خلالها، بين «اللحن» و{النص» أو بالأحرى بين «الموسيقار» الذي يهجر المدينة، بصخبها وناسها، بحثاً عن «النغمة المفقودة»، و{العاشق» الذي يرحل إلى مرتع الصبا، وذكريات الطفولة، ليفتش عن الحب، وهو المعنى الذي يتجلى في أغاني: «وياك»، «بانادي عليك» و{جميل جمال»، والثلاثة من تأليف مأمون الشناوي، وكذلك «يا مالكة القلب بايدك» تأليف صالح جودت.
أدرك «بركات» أن الفيلم المقتبس من قصة كتب لها الحوار يوسف عيسى لن يصل إلى الجمهور بغير «الحدوتة» التقليدية، وأن ثمة استحالة في الاعتماد على الأغاني وحدها، حتى لو كان وراءها فريد الأطرش، فما كان منه سوى أن تعامل برصانة، مع تلك «الثقافة»، بأن لجأ إلى «الميلودراما»، التي تبدأ بالحب من طرف واحد، بكل ما يعنيه من قسوة للطرف المُعذب (فاتن حمامة) بسبب تجاهل الحبيب (فريد الأطرش)، والغيرة التي تعتمل في النفوس، والصراع الخفي بين الفقراء والأغنياء (ماجدة وفاتن من جهة ومديحة يسري وسراج منير من جهة أخرى)، مثلما عرى، برقته وترفعه المعهودين، بعض الظواهر الاجتماعية السلبية في تلك الفترة، ومرر رسالته التي تقول: «قد تتحقق السعادة عند البعض في الجري وراء الأمل»! في فيلم «لحن الخلود» اختار فريد الأطرش لنفسه، كالعادة، اسم «وحيد»، لكن لا يمكن تغافل بقية الشخصيات التي تحمل أسماء ذات مغزى؛ فالعاشقة المخلصة لحبها وحبيبها تُدعى «وفاء» (فاتن حمامة) و{سهام» (مديحة يسري) أصابها سهم «كيوبيد» بطريق الخطأ، بينما بدت «سناء» (ماجدة) كضوء البرق، الخاطف، ونجح «بركات» في تحويل أغنية «جميل جمال»، التي شاركت بالغناء فيها «فاتن» و{ماجدة»، إلى «أيقونة» ليس فقط بسبب جمال اللحن والأداء والكلمات، وإنما بسبب قدرة «بركات» على تكوين «كادر» ينطق بالسحر، ويقول المعنى من دون الحاجة إلى جملة حوار واحدة؛ فالحبيب (فريد الأطرش) يُمسك العود ويغني، والولهانة (فاتن حمامة) لا تجلس على مقعد، كشقيقتها (ماجدة) وعمها (سراج منير)، وإنما تفترش الأرض بجانبه، وتنظر إليه بهيام، وتكاد تلقي بنفسها في أحضانه، وفي المقطع الذي يقول فيه: «ليه الدنيا جميلة وحلوة وانت معايا» تهمس وكأنها تخاطبه ليشعر بحبها: «وانت معايا»، وعندما تجد نفسها مدفوعة إلى الرقص على إيقاع الأغنية، تتمايل بوقار، إن جاز التعبير، وتتبختر بدلال لا يُخفى خفر العذارى بينما يوحي المشهد، في المقابل، بأن «سهام» هي «العزول» أو «هادم اللذات»!هذه الشاعرية أو الواقعية الرومانسية، التي ارتبطت باسم «بركات»، تجلت كثيراً في فيلم «لحن الخلود»؛ سواء على صعيد الاختيار الصائب لطاقم الممثلين؛ خصوصاً فريد الأطرش، الذي يُعد دوره في هذا الفيلم أحد أهم أدواره في السينما، أو «الحدوتة» الدرامية المحبوكة، وجاءت المناظر الخارجية في بلطيم، لتضفي تنوعاً بصرياً، ومسحة تعبيرية، لكنها لم تدم طويلاً؛ إذ سرعان ما عادت الكاميرا (جوليو دي لوكا) إلى سجنها في ديكور الفيلات والقصور، وبعدما كانت تداعب رمال «بلطيم» صارت تصطدم بالأسِرّة الفخمة، المقاعد الوثيرة والأعمدة الرخامية، واختفى المنظر الطبيعي landscape من دون رجعة!اللافت أنه في الوقت الذي وصلت {فاتن حمامة} إلى الذروة، بأداء رائع جمع بين خفة الظل، والمرح، والشقاوة، والتعاسة، وحاولت {مديحة يسري} أن تُجاريها، ظهرت {ماجدة} في صورة باهتة، ولم تختلف كثيراً عن ممثلي الأدوار الثانوية الذين نوهت إليهم عناوين الفيلم لكننا لم نر لهم أثراً على الشاشة، على عكس التأثير المدوي لمشهد النهاية، والقطع الأخاذ (مونتاج فتحي قاسم) بين فريد الأطرش، وهو يقود الأوركسترا، و{وفاء} التي تنصت إليه، في المنزل، في حين يتجاهل زوجته التي تجلس أمامه في {البنوار}... وبانتهاء القراءة الجديدة للفيلم نكتشف أن {بركات} هو {لحن الخلود}!