متحف قطر الوطني يشتري لوحة للانطباعي الفرنسي "غوغان" بـ300 مليون دولار. خبر جاءني مع الأخبار. قد يكون وقعُ المبلغ على قلب المقيم في الغرب من وزن الريشة، لأن إنساناً رخيصاً يظهر في إعلام الغرب هذه الأيام، ولسبب أكثر رخصاً منه، تراه برمشة عين من أصحاب الملايين. ولكن وقع الخبر على قلب ابن العالم الثالث، أو الرابع لابد سيكون من الوزن الذي يُنبت جذوراً للكراهية، لا عهد للكراهية بها. والخبر اليوم يصل إلى أكثر الناس بؤساً، وجوعاً، بسرعة ويسر. على أن هامشي هذا لا ينصرف إلى دافعي المبلغ أو قابضيه، فهذه علّة تنتسب إلى عِلل البشر التي لا تُحصى. ولكن هامشي ينصرف إلى العلّة التي حلّت بالفن البصري وفنانيه، منذ النصف الأول من القرن العشرين، ومع الحرب العالمية الثانية التي هجّرت فناني أوروبا إلى أميركا، وجعلت نيويورك بفضلهم بديلاً عظيم الثروة لباريس المحتلة الفقيرة.
إن كلَّ معايير العقل، والقلب المعنيةِ بتقييم الجمال لن ترى مُنجزاً واحداً باسم هذا الجمال يمكن أن يوازي قيمةً مالية بهذا القدر. فكيف حلّ على الحياة الغربية هذا المعيار الغريب للتقييم؟ لقد اختطف رأس المال الأميركي الفائض اللوحة، بعد أن أسس سوقه وبورصته، وحولها بقدرة الساحر إلى سلعة، ثم إلى سلعة نادرة. الفنانون الذين هربوا من أوروبا الحرب حققوا فردوسهم في وجهين متناقضين: لقد ربحوا اللوحة/ السلعة التي صارت أثمانها تتضاعف داخل البورصة، وخسروا اللوحة/ الفن. لقد اجتاحتهم موجة "التجريد" الأميركي على يد سماسرته المهرة منذ صمويل كوتس، وتشارلس ساجي. وبالرغم من أن هذا المد قد وزّع الفنانين في حقلين من النتاج الفني متناحرين: فن مبولة دوشامب، وفن التشكيل ذي الموروث، إلا أن كلا الحقلين وقعا تحت هيمنة حركة البورصة، التي تتحكم بها قوى مالية ذات مصالح ليست واضحة إلا لذوي الشأن. الفنان ظل يسعى بمهارة، كما كان يسعى، ولكن مهارته هذه المرة تحلّت بمعرفة جديدة، لها صلة مباشرة بسبل الإعلام، والمافيات المالية، وما يسمى اليوم ببورصة الفن. ما من معيار لجودة اللوحة أو رداءتها، يمكن أن يتحكم في صلاحيتها لدخول السوق. هناك معيار للتسويق لا للإبداع الفني. والفنان الذي لا يريد أن يحدّق في هذه الحقيقة، سيظل شكّاءً أبد الدهر. لقد هجر كثيرٌ من فناني الغرب، والعالم، المحفلَ الثقافي الذي ينتسب إليه الفن التشكيلي منذُ وجد، ورحلوا مع لوحاتهم إلى محافل المال. القرابة بين الفنانين والأثرياء صارت اليوم متميزة، كما تميزت صحبتُهم القديمة مع الشاعر، والروائي، والفيلسوف، والمسرحي في الأيام القديمة. إن لوحةَ ﮔوﮔان، الذي عاش ومات بائساً، رائعة بالتأكيد. وهي تستحق ثمناً أعلى من ثمن سيارة رولزرويس لدى رجل مرفّه، بالتأكيد. ولكنها أدنى من أن تعادل ثمن غرفة إنعاش، بمعدات متقدمة، في العالم الثالث. أعرف أن المقارنة هذه عرضةٌ لإساءة الفهم. فالحاجةُ إلى الجمال المُتخيّل لدى الانسان لا يقل عن حاجته إلى العافية ومواصلة الحياة. على شرط أن يتعادل ثمنُ الحاجتين بصورة منصفة. إن النزوعَ إلى الثروة وإلى السلطة هو آفةُ الانسان الأكثر خطورةً وتدميراً، منذ كان. في العصر الرأسمالي الحديث صارت هذه الآفةُ أكثرَ خفاءً، وتحت قناع. فهي اليوم تخرج إليك باسم الفن، المبرّأ من أي غرض نفعي (رأي الفيلسوف "كانت")، وباسم كرة القدم، مثار حماس الروح المتبطّلة، وباسم الشهرة (التي تعني إجماع رضا الناس، لا غير)... الخ. والنزوعُ الشره إلى الثروة والسلطة لدى الانسان، يقابله بالضرورة انحسارٌ في اتجاه الفقر والاستعباد لدى آخر. ولعل كل شرور العالم اليوم يتدفق من ينبوع الوحل هذا. وهذا يحدث في الفن ومع الفنانين. فنزوعُ بورصة الفن إلى إثراء لوحةٍ أو فنان بصورة تُذكر بتجارة الأسلحة، بفعل عوامل لا شأن لها بمعيار الفن، سيتحقق بالضرورة على حساب لوحاتٍ وفنانين آخرين. الظل والضوء هنا يوزعه على هوى المصلحة شُطّارُ السوق.
توابل - ثقافات
اللوحة في سوق المال
12-02-2015