يستهلّ الشاعر العراقي سهيل نجم بوحه الشعري في بقصيدة «طائر الممكن» واقفاً تحت قنطرة الشاعر كازنتزاكي مردّداً قوله: «ما دام لم يمنحنا الأجنحة لماذا يدفعنا إلى الطيران؟» ليظهر الواقع مصلوباً على المستحيل في مناخ وجودي قاتم. فناس الشاعر يحملون الخرائط على وجوههم بعدما أحكم الحزن مساميره فيها: خرائطهم، مثبتة على وجوههم بمسامير الحزن»، بينما الأمل ملتبس الوجود ومتوارٍ خلف الخرس: «قل لنا إنّك موجود، كي نحيا أيّها الأمل»، وبينما الحياة تنزل عميقاً في مستنقع الموت، وتضجّ قطعان من الأسئلة في اتّساع العيون مرتدية كثير الشوك: ...»ولا أذرع تتوسّل الدعاء / غير أسئلة شوكيّة في زوايا العيون».

Ad

ويعلن شاعر الفجيعة العراقية أنّ أهله يدفعون ثمن حروب لم يبحثوا عنها في سوق الدنيا، ولم يرغبوا يوماً في تزيين جباه بيوتهم بالصّور التي تقطر موتاً يجود على اليافظات بسوادها: «... نحمل أوزار حروب ليست لنا / صورنا تزيّن جباه بيوتنا / وتلك اليافطات السّود». وتحت سماء ثقيلة يتنازل القمر عن فضّته ويمتلئ من صلابة الحجر ليسقط على الرؤوس حين الفجر يزور بلا حنجرة ديك: «تآخينا وأكياس الرّمل من قبل أن يكتمل القمر حجراً ويسقط على رؤوسنا في الفجر».

يمشي نجم والجراح تتساقط منه، من صدر كلّ عراقيّ تكسّرت فيه النصال على النصال. فالعراق ساحة تقيم فيها الجراح أعراسها حيث يتوَّج الخيال الوحشيّ حاكماً بأمره صارخاً: «أيّها العراقيّون لقد أسميتُكم قتلى / فاجلسوا باسمين / بينما تتطايرون ضحايا لإله المحْوِ». ولا يتجنّب الشاعر الدلّ بالإصبع على مهندسي مجاري أنهار الدماء العراقيّة: «مرّ المستعمرون الجدد / زرعوا هنا زهرة الدّم»، وعلى الشاهرين سيوفهم من أغماد الطائفيّة آتين بكلّ جديد في فنّ الذبح: «طائفيّو فَنّ الذبح»، وعلى بيّاعي محابرهم في سوق نخاسة الكلمة: «مرّ أصحاب القصائد المأجورة، وكتّاب المقالة بفلس»... وحين لليأس  ظلمة تتناسل بشكل خرافيّ إنّ قمرا ما يُشعر بأنّ آخر النهاية أوّل البداية: «يا من فصلت روحي عن جسدي/ ... أيّها القديم كالضغينة/ ... أيّها الموت، ستكون دائماً ثمّة بدايات جديدة».

نهارات على الأرصفة

والعراقيّون، على مرمى نظر الشاعر، ليس لهم الوقت ليعيشوا أيّامهم، فهم «يبسّطون» نهاراتهم على الأرصفة، بائعين عُلَب الضوء لمن له عمر وله وقت ليعيش هذا العمر، ويعلّقون لياليهم على الأعمدة التي لم يعد من ضوء يستوطن أعناقها: «كأنّنا جئنا إلى لعبتنا الأثيرة./ نبيع النهار على الأرصفة/ ونعلّق الليل على الأعمدة./ وقتُنا فرص لخلط الأمل بالحزن».

والموت في العراق تخطّى الإنسان ونسج له أعشاشاً على شجر الوقت، وأمسى في لحم الأشياء كلّها... وحتى المراكب تسلّل الموت إلى خشبها وبات قبطاناً لها وحيداً: «المراكب المنسيّة / مثل أفراس نهر نافقة/ تنام على كتف دجلة/ وتغنّي ليلها الطويل». هذه المراكب القتيلة امتطاها الأطفال فاتحين أشرعة الحلم في الزمن الميّت، وهم لا ينتبهون إلى نهر جريح الماء مغتسل بالدم صباح مساء وعلى أفواه سمكه الميت تقول الأغنية دمها الأخير: «وجاء الأطفال بعصيّهم الصغيرة ليمتطوها/ مبحرين بها إلى مدن الحلم/ حيث الطمأنينة مرآة الأبد/ ... غير عابئين/ بدجلة يجري من تحتهم / تذرف أمواجه دماً مرّاً / وأغنية ذبيحة/ تيبّسَت على شفاه أسماكه الميتة».

    وفي قصيدة «فردوس أسود» يحدّق نجم إلى الغيوم، فيراها تهذي في عباءة من جراح ويرى العسل دماً لا يفارق قفير الرماد: «أنظر/ ذي سحب مجروحة/ بهذيانها/ وذا / عسل دمويّ/ يهطل من شجرة الرماد». وفي ظلال شجرة الموت العملاقة يمدّ الشاعر يده إلى ظلمة الفيء علّه ينجو من اللغز والأحجية ويصل إلى نسغ المعنى، غير أنّ اللغة تخذله، ويتحوّل الحبر على أوراقه مادّة لتحنيط مفردات لم يقدَّر لها أن تحبل بالمعنى وتحتضنه جنيناً في أحشائها: «ليتني لغز/ يعبر الأحجية إلى المعنى./ بيد أنّ المسافة مجرّد حبر»... وقد يكون الأمل هو جلاّد الشاعر الأكبر راضعاً إيّاه من ينبوع المستحيل، ذلك الأمل الذي تفترسه الأحزان على الرصيف العراقي: «مختبئاً كان الطفل في رحم العاصفة/ أخذته المواقيت ضدّ الرياح/ وأرضعته من ماء مستحيل/ أرضعته الأمنية»...

ويحضر الأب في المشهد الشعريّ يعكّز على الثمانين من السنين، ويُنزل ترابه عن كتفيه، وعبثاً يطارد الشاعر الابن روح الأبوّة بعدما قال الجسد آخر ما عنده: «ليتني أعرف أين اختبأتِ». ويصوّر نجم رحيل أبيه فيغدو هو والموت والتراب ثلاثة: «جلسنا ثلاثتنا: رفات أبي/ والموت/ وأنا». أمّا الرفات فسُجّيَت على صراخ مات فيه الصّوت، وأمّا الموت فكان طفلاً له من السرير والخراطيم الناعمة على اليدين دمى: «الرفات يلفّها صراخ صامت/ والموت طفل يتقافز/ بين السرير وخراطيم ناعمة شُدّت على اليدين». وفي كثافة الموت العراقي حيث في سماء العراق تحتشد الأرواح سحاباً، لا يعرف كيف ينجو الشاعر من التشابه في موت أبيه، فالموت جماعيّ، ومن أين لشاعر أن يقف تحت قنطرة حزنه ويقول: «مات أبي؟!» إنّه الموت الذي يستحقّ اختلافاً، وعاطفة أخرى، ووقتاً آخر. إنّه الموت الذي يجب أن يحيا في ذاكرة القلب متفرّداً غير أنّ الموت العراقي لا يترك مجالاً لدمعة تبكي إنساناً واحداً: «أقول: يا أبي،/ في هذا الفناء الجماعيّ،/ ماذا أسمّي موتَكَ؟» ويواصل نجم دعوة اللغة إلى رثاء أبيه، شاعراً بالذنب وهو  يردّ تراب الدنيا على ترابه: «أتساءل كيف تجرّأت يداي الآثمتان/ برمي التراب عليك؟»، ويحاول تعريف الموت على طريقته: «ما الموت يا سيّدي؟/ أهو أغنية عدميّة يترنّم بها الموتى؟»، ويخشى نجم عدم اللقاء بعد الموت شاكّاً في كلّ ما تبنّته الكتب وأصحابها: «هل حقّاً سألتقيك أم سنكون أغراباً/ ... تقول الكتب أشياء كثيرة/ لكنّها تكذب تكذب، أو ما من أحد عاد»... ويتراءى له أنّه حاول استرداد أبيه من القبر غير أنّه أبى وكان للقبر ارتعاش: «كنت سأحاول ثانيةً لآتي بك/ لكنّك رددتني/ رددتني/ رددتني/ وارتعش القبر»...

في «فردوس أسود» تتبنّى اللغة وجعاً عراقيّاً على جمال، وقد عرف الشاعر سهيل نجم كيف يحافظ على أناقة جملته الحزينة، في وطن زاره موت همجيّ لا يليق به.