السياب بعد خمسين عاماً
![فوزي كريم](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1498033753948674500/1498033754000/1280x960.jpg)
كل عناصر طبيعة السياب، ومنها التي وجدها نقاده شائبة ورديئة، كانت سماداً رائعاً لثمار شعره: ضعفه، ردود أفعاله السريعة، سهولة مكسره، تقلبه، فيض عواطفه عن الحد، مشاعر الذنب الحارقة.. فكل شائبة، إذا ما وجدت حقاً، ليست وليدة كيان رديء، بل وليدة محيط رديء وبالغ القسوة. ولذلك يبدو لي أن خلو شعر السياب من عنصر الكراهية، الذي يسم الشعر العراقي بصورة ملفتة للنظر، من الجواهري إلى البياتي وسعدي يوسف حتى الأجيال المتأخرة، إنما هو وليد تلك العناصر، وهو معيار شاعريته الأكثر رهافة. كل ذلك الضعف إزاء الحياة، الخذلان إزاء الشر الانساني، الهرب من عالم الأحياء إلى عالم الموتى، ليس إلا معيار شاعرية بالغة النضج والنبل. ولم تهب الآلهة "كلكامش" سمة النبل هذه، إلا بعد أن أيقظته على عناصر ضعفه وفنائه الأكيد. السياب، مقارنة بنازك وبشعراء جيله، جاء من الريف، وفي كيانه عناصر ضعف كامنة، لا يُعوّل عليها في شيء داخل مدينة نامية، وتحت مناخ سياسي ضاغط، ووسط حياة ثقافية مُعرّضة للحساب. كيان بالغ الهزال، بالغ الحساسية، بالغ الحسية، بالغ الضعف، ولا يتمتع بوسامة الشباب. وسط محيط عضلي، مباشر كحد الموسى، يحتقر الحاضر لأنه يهدف إلى المستقبل وحده، وحسناوات وسطه الثقافي قلة قليلة، متطلعة إلى وجاهة الطبقة الوسطى. هذه المفارقة كفيلة بصياغة وجود شاذ بمجمله. ولذلك لا تستطيع أن تفهم هذا الكيان حقاً من مواقفه، لأن مواقفه ردود أفعال، وليست أفعالاً. بل تستطيع أن تفهمه عبر شعره وحده. فشعره يفيض برقة طبعه، وبضعفه وسرعة تهيجه بصورة لافتة للنظر. وما من قوة من قوى الحياة المحيطة الضاغطة تعطي لكلمات الشعر على الورق هذه القيمة. حتى نقاد الشعر، حين يلتفتون إلى السياب، يجدون أنفسهم ينتسبون إلى هذه القوى التاريخية عن وعي، أو غير وعي. فهم يزنون قصيدته بميزان قوى التاريخ الفاعلة، لا بقوى معتركه الداخلي. ولذلك فإن هذه القوى بقدر ما أسهمت في سحق وقتل السياب، بقدر ما حفزت موهبته الشعرية الداخلية على التخلي عن قوى التاريخ (تاريخهم) الفاعل، لصالح الأسطورة التي خلقها من شعره، وفي شعره.